نور الدين الغيلوفي
1. يبدو أنّ المقاومة، من خبرتها، لم تعد معنيّة بأن “تلعب” مع كيان الاحتلال. هم يعرفون أنّه كيان وظيفيّ بلا أخلاق ولا يخضع لقوانين البشريّة المرعيّة ولا يعوَّل عليه في أن يلتزم بميثاق امضى عليه. لذلك وسّعت المقاومة من مساحة معركتها بعد أن التقطت أنفاسها بتوقّف الحرب على غزّة. اختارت أن توسّع اللعبة إلى الشعوب التي تدفع الضرائب من جيوبها لتنتهي إلى أسلحة تشحنها دولها إليه.
2. حرب أخرى تخوضها المقاومة في غزة تأتي من هذه المشاهد التي تبثّها عند كلّ موكب من مواكب تسليم الأسرى لمنظمة الصليب الأحمر الدولي. هي مشاهد يسجّلها العالم في ذاكرته عن حرب بين مقاومة محاصرة كلّ نشاطها تحت الأرض وبين جيش احتلال تدعمه دول العالم في البرّ والجوّ والبحر فيترجم دعمها إلى إجرام لا يعنيه أن يخفيَه رغم ما ظلّ، منذ قيامه، يدّعيه من كونه أكثر جيوش العالم أخلاقيّة. ربّما يمكنك أن تبرّر للضعيف انتهاكه لمعاهدات لا يملك أن يحافظ عليها، لكن ولا يمكن لعاقل أن يبّرر لجيش قويّ ما يفعل جيش دولة الاحتلال بالفلسطينيين.
3. موكب تسليم الأسرى الأخير كان من مخيّم “النصيرات”. جميع مواكب التسليم السابقة كانت مثيرة. غير أنّ الموكب الأخير قد اختلف في إثارته عن المواكب التي سبقته. وجاءت الإثارة من ثلاثة مشاهد:
– المشهد الأوّل أقدم فيه جنديّ أسير على تقبيل رأسَيْ عنصرين من عناصر المقاومة. لا شكّ أنّ المشهد كان صاعقا لرئيس وزراء الكيان المحتلّ، لأنّ من شأنه أن يفنّد كلّ مزاعمه التي عمل من خلالها على تشويه المقاومة ونعتها بنعوت تجرّد عناصرها من بشريّتهم وتجعل منهم أعداء للحضارة “الإنسانيّة” الحديثة.. وعلى قاعدة تلك السرديّة كان نتنياهو يستجدي دول العالم لتقف إلى جانبه في حربه التي شنّها على غزّة.

لا أظنّ أنّ أسيرا، في التاريخ، ظهر للعالم يقبّل رأس الذي أسره. الكيان المحتلّ لا يملك إلّا أن يتغافل عن هذا المشهد المستفزّ، وإن هم تحدّثوا عنه فسيقولون، مثلا، إنّ الجنديّ كان مرغما على فعل ما فعل. الصورة تقول عكس ذلك تماما. حركة الجندي كانت فيها عفويّة تحكي عرفانا بالجميل وقد جاءت شهادة، أمام العالم الذي يراقب، على نبل المقاومة. وربّما هي رسالة موجّهة إلى رئيس وزراء الاحتلال نفسه، نكاية فيه وعقابا له على تقصيره في تحرير الأسرى لدى المقاومة بصفقة تبادل وعلى عجزه عن استرجاعهم بالانتصار المطلق على المقاومة كما توعّد..
– المشهد الثاني جاءت فيه المقاومة بجنديين أسيرين لديها ليحضرا من داخل سيّارة مراسمَ تسليم رفاقهم. المفاجأة ليست هنا. المفاجأة في أنّ هذين الأسيرين كان الاحتلال قد أخبر جمهوره بموتهما في الحرب.
– أمّا المشهد الثالث فمشهد إفراج المقاومة، خارج موكب التسليم، عن الأسير السادس المجنَّد هشام السيّد الذي تخلّى عنه الاحتلال طيلة عشر سنوات، لأنّه فلسطينيّ. هنا الضربة كانت مزدوجة.
4. المقاومة تعي ما تفعل. هذه كانت الدفعة السابعة ضمن المرحلة الأولى من صفقة التبادل. نتنياهو يتلكّأ في إتمام الصفقة. وكان لا بدّ من توريطه أمام العالم وأمام جمهوره، خاصّة أهالي الأسرى منه، ليمضيَ في إكمال الصفقة وإيقاف الحرب.
ولأنّ المفاجأة كانت مركّبة فقد أربكت رئيس وزراء الاحتلال واستدرجته إلى ردّ العفل. لقد باتت خبيرة به تعرف كيف تحرّكه عن بعد. وكان ردّ فعله على المشاهد سريعا. أمر بإنزال الأسرى الفلسطينيين المزمع إطلاق سراحهم من الحافلات والعودة بهم إلى زنازينهم.
ردّ فعل لا يليق إلّا بعصابة لا تستطيع أن تفيَ بتعهّداتها أمام الوسطاء والعالم. وقد برّر مكتب نتنياهو ذلك القرار بقوله إنّ “حماس تتعمّد إهانة كرامة المحتجزين وتستغلّهم للترويج لأهداف سياسية”. المقاومة تعلم أنّ الاحتلال سبعيد الأسرى إلى الحافلات من جديد لتحريرهم.
5. لقد أربكت المقاومة العدوَّ بما أظهرت من نبل في تعاملها مع أسراه لديها. وفي مقابل نبل المقاومة أجبرت مصلحة السجون في دولة لاحتلال الأسرى الفلسطينيين المقرّر الإفراج عنهم في الدفعة السابعة من صفقة التبادل، على ارتداء ملابس طبعت عليها عبارات مقتبسة من سفر المزامير في العهد القديم “أطارد أعدائي فأدركهم ولا أرجع حتى القضاء عليهم”.
وكان الاحتلال قد طبع على ملابس دفعة سابقة من الأسرى المحرَّرين عبارة “لا ننسى ولا نغفر”، مع صورة النجمة السداسية.
6. المقاومة أظهرت بطولة منقطعة النظير طيلة الحرب. وقد نجحت في استدراج العدوّ إلى كمائنها ووثّقت كتائبُها الإعلاميّةُ كلَّ المشاهد. وذلك إنّما يعكس عقلا عسكريّا جبّارا منع القوّة العسكرية الكونيّة العاتية من تحقيق “نصر مطلق” كانت وعدت به جمهورها عند بداية الحرب.
المقاومة في غزّة لا تزال تظهر للعالم مفاجآت منها ما يتعلّق بالشجاعة وحسن التخطيط والسيطرة على الميدان رغم تفوّق العدوّ العسكريّ. ومنها ما يتعلّق بحسن الإدارة وإنتاج الصورة.
لقد رسمت دعائم “بيداغوجيا حربيّة” استثنائيّة في التاريخ قد تحمل التاريخ على مراجعة ورقاته.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.