الجمعة 21 فبراير 2025
نور الدين الغيلوفي
نور الدين الغيلوفي

لا أقبل وساطة من أحد

نور الدين الغيلوفي

منذ فارقت أمّي مُكْرَهًا أوّلَ مرّة، وأنا صبيّ، تعوّدت التعويل على ذاتي،
لا أقبل وساطةً من أحد،
اقتلعوني من حضن أمّي باكرا.. قالوا لي هذا أوان المدرسة.
المدرسة فيها عصا المعلم. وحضن أمّي كان حصني.
فمن، بَعيدًا عن حضن أمّي، يجنّبي العصا؟
حين حلّ موسم رحيل أمّي الى ميعاد البداوة والغنم تشبّثتُ بها..
اقتلعوني منها.. فبكيتُ، فبكتْ.
لا أذكر أنّني كرهت المدرسة ولكنّني بكيت..

أمّي
أمّي

تعلّمت الحروف على وقع دموعي من فقد أمّي وشوقي والألم..
أمّي لم تكن معي.. والمعلّم في يده عصا.. قالوا العصا لمن عصى
تعلّمت أمشي على الحَرْفِ لم أعص الحرفَ فراوغتُ، بما تعلّمتُ، عصا المعلم..
وخزّنت، في حرف علمي، حنيني إلى حضن أمّي.. وتعلّمت لا أقبل واسطة من أحد..
سمعت، في ساحة المدرسة بشيء يأتي اسمُه العطلة.. وأنا أغصّ بشوقي إلى أمّي أخلط به الحروف. وأكتم غصّتي.
– ما معنى عطلة؟
– معناها “ما نقروش”.
ارتعدت فرائصي لا أدري لماذا.. حفظتُ الكلمة.. تبسّمتْ أمّي فيها.. بدّلتُ وجهة معناها.. دسستُها فيّ بمعناها الجديد.
– العطلة لقاء أمّي.
ولكن، كيف إلى أمّي السبيل؟
– أين أمّي؟
– في وادي الرمْل
– بعيد؟
– بعيد جدا.
– أريد أرى أمّي.
– إذا جاء من نأمنه عليك سيأخذك إلى أمّك لتراها.
أعذر، الآن، كلّ الذين لم يصبروا على أحضان أمّهاتهم فانقطعوا عن الدراسة لينعموا بدفئها. شتاء القرى قاسٍ.. وتزيد قسوته متى غابت الأمّ لم تسوّ فوقك غطاءك وأنت نائم، كأنّ مَلاكَ حراسة بك قد عبر..
الذين انقطعوا شبعوا بأحضان أمّهاتهم وتعلّمتُ أنا، بما تعلّمت، المجاعةَ. وأخذتْ، بالتعلّم، المجاعاتُ في روحي تتوسّع.

•••

جاء خالي ضو زوج عمّتي من وادي الرمل يتزوّد من القرية للبادية.. رافقتُه إلى أمّي.
في الطريق إليها نبتت لي أجنحة..
عدت من المدرسة في آخر نهار انفصلتُ عن الأرض من صباحه.. انطلقنا في رحلتنا بعد انتهاء المدرسة.. سرنا في طريقِ مَغربِ الشّمس كأنّنا نشيّعها إليه حتّى غبنا معها فيه. تركتنا شمسنا نمشي وحدنا وغابت. أسلمتنا لليل موحش واختفت.
الطريق مسربٌ حفرته حوافرُ الدوابّ.. كنت طفلا لم أجرّب مشي كلّ تلك المسافة على قدميّ ولا عرفتُ المساربَ في الصحراء.
خالي ضو عمّ أمّي لم يجرّب أبوّته في البَنين.. كان حرصه على سلامة أتانه أكبر من حرصه عليّ. لم يذق طعم البنين.
زحف الظلام على الطريق في صحراء شاسعة لا قبس للضوء بها. جمع الليل أطراف شمس النهار وطواها فأظلمت عيناي وسارت قدماي في الطريق بلا دليل.. القوم يسير بهم حديثُهم على إيقاع حوافر الحُمُر المحمّلة بالحاجات، وأنا عليّ أن أهرول لأكون ضمن الركب،
ولا وساطة من أحد.
قدماي دَمِيَتَا.. النعل كان “صندال كاوتشو”.. سيور من الجلد دُقّت على قطعة سوداء مقطوعة من عجلة، ولا جوارب..
الجوارب سنتعلّمها حين ندخل إلى المبيت.
كنّا نسير في طريق كلّها أحراش.. حطب وحجر وشوك قتاد.. قطعنا مفازات بها أودية ومضائق وهضاب.. وكان مسير الليل في تلك الأنحاء يبعثرني ويُعثرني. وكلمّا وقعتُ من عثرتي نهرني خالي ضو وقال فيّ جملة إنشاء رأيت كأنّ بها دعاء..
قال إنّ أمّي تطعمني في “الغرّاف”.. سأعلم في المبيت أنّ “الغُرّاف” اسمه في المدينة “لوش”.
لمّا حدّثت أمّي بما سمعتُ من خالي ضو ساءها ما سمعت. وهمهمتْ “يا مجرّب الأكباد لاش تلومني”.
– أُمّا، ما علاقة الغرّاف بالعثرات؟
– يقولون إنّ من يأكل من الغرّاف تكثر عثراته حين يمشي.

في لحظة ما من لحظات المسير في الصحراء بدت لنا أضواء.. يوقدون الحطب يستضيئون بالنار.
في تلك الساعة كانت الأغنام تأوي إلى البيوت من مراعيها يسوقها الرعاة ويبرطمون بمخاطبتها بكلام رأيت أنّها تفهمه. خيام عديدة تكوّن حيّنا.. خيمتنا وخيام أهلنا من حولنا. تفرّق الركب من حولي وذهب كلّ قادم بحماره إلى خيمته وتُركت وحدي. الأرض التي انفصلتُ عنها في النّهار من هجرة خيالي في أمّي وضعتُ، وقتَها، عليها قدمّي. وجدتُني أسير لا أعرف أين.. لمّا رأتني كلاب الحيّ وحدي أنكرتني وهاجمتني فاقتلعت بنباحها قلبي فصرختُ.. صراخي زاد من جرأة الكلاب عليّ. من وقتها تعلّمت ألّا أصرخ لكي لا تتجرّأ الكلاب عليّ. لم أهرب وقتها من شدّة الخوف ولكنّي تعلّمت أنّ الكلاب تهاب الذي لا يهرب فتركتُ الهروب.
نباح كلاب وثغاء أغنام ونهيق أحمرة وأصوات شتّى لم أتبيّنها.. خلطة أهاجت الليلَ وروحي. شيء ما بداخلي انكمش فتعطّلت أقنية الإدراك منّي.
لم أنتبه إلّا عندما أقبلت أمّي، وكانت طول نهارها تنتظرني، تهرول بيدها الفانوس “الغازة” تتوسّط بين كلاب الحيّ وبيني. عاد إليّ سمعي على صوتها وهي تنهر الكلاب عنّي تشتمها وتدعو عليها وتشيح بعصاها.
ارتميت في حضن أمّي حدّ الغرق. بغرقي في حضنها تحصّنت من خوفي وحُقنت من تلك اللحظة بدواء حاصر الخوفَ في نفسي، حتّى ما عدت أقبل وساطة من أحد.

•••

انقضت العطلة سريعا. عند الفجر أفقت على صوت أمّي توقظني. نهضت من نومي. وجدتها قد أعدّت لي فطورا فاخرا ممّا جادت به ندرة البداوة وحنوّ الأمومة.. مازال طعم فطور أمّي حارسا فوق لساني يعدّل لي كلّ المذاقات.
شيّعتني أمّي حتّى ابتعدتُ عن مرمى نباح كلاب الحيّ.. تنفّست ريحها من حضنها. ودّعتني ودَعَتْ لي.. وهوت عليّ بروحها تستردّني.. دمعت عينُها فردّت دمعتَها بشالها عليها، ولكنّني رأيتها فاستزدتُ بها لزادي.
– تعرف تروّح وحدك يا كبدي؟
– عبارة “كبدي” عصرتني، ولكنّني ربطتُ جاشي وأجبتها:
– نعرف، والله يمّا نعرف.

•••

عدت أدراجي وحدي.. خطوت خطوات. التفتُّ إلى أمّي.. رأيتها تقتلع حطبا تعود به إلى خيمتها.. أمّي لا تضيع خطوة من خطاها. وقفتُ أرقبها قليلا، حتّى وقعت دمعة مني على حجرة صمّاء كانت عند المسرب. نظرتُ في الدمعة على الحجرة. التقطتها. أردت أخذها.. ولكن أين أضعها ولا جيب لي؟ بحثت عن مكان أستطيع، إذا عدت من الطريق، أن أستدلّ عليه.. خبأت فيه حجرتي التي عليها دمعتي.
في بعض رحلاتي على ظهر الأتان وجدتها في مكانها تحرسها دمعتي.. أخذتها وعدت بها إلى القرية لم أغادرها. تعلّمت التيمّم عليها متى لم أجد بالبيت ماء أو تقاعستُ عن وضوء.
أتيمّم بدمعتي،
ولا أقبل وساطة من أحد.


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

نور الدين الغيلوفي

نعم انتصرت غزة

نور الدين الغيلوفي انتصرت غزة 1. قريب لي قال لي عند اندلاع طوفان الأقصى، في …

نور الدين الغيلوفي

14 جانفي.. ما الذي بقي من الثورة

نور الدين الغيلوفي 1. اليوم الذي هرب فيه بن علي ملتحفا بأسراره، صار ذكرى تسمّى …

اترك رد