عادل معيزي
تخوض سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة إضراب جوع مع التوقف عن تناول الأدوية منذ 14 جانفي 2025 في سجن إيقافها في منوبة ممّا أدّى إلى تدهور صحّتها ونقلها إلى المستشفى تخوض هذا الإضراب بعد أن وجّهت رسالة إلى سلط البلاد هذا نصها ” إلى سلط بلادي تونس، أنا ماعادش عندي القدرة باش نزيد نتحمّل الظلم إلي سلط عليّ، (…) ولذا قررت باش نخرج من الحفرة التي رُدمت فيها ظلما مهما كلّفني الأمر. وحتى حد ما يقبل الظلم وربي ما يسمحش بيه وما يسامحش الظالمين”…
كانت العدالة الانتقالية المطلب الملح لكل القوى السياسية بعد سقوط رأس النظام القديم في 2011 حتى يتجنّب الشعب التونسي العدالة الانتقامية عبر القصاص الفردي والتقاتل.. وقد تمّ ترحيل كل انتهاكات نظام الاستبداد والفساد وكل ما انجرّ من تجاوزات واغتيالات وانتهاكات بعد 2011 إلى قانون العدالة الانتقالية الذي تمت المصادقة عليه من قبل أكثر من ثلثي أعضاء البرلمان في ديسمبر 2013 والذي نصّ في فصوله على إنشاء هيئة تكلف بمعالجة ارث ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان كالقتل العمد والاغتصاب والتعذيب والاختفاء القسري والإعدام دون توفر ضمانات المحاكمة العادلة والفساد المالي والاعتداء على المال العام والدفع إلى الهجرة الاضطرارية وتزوير الانتخابات وغيرها وتم إحداث الهيئة وانتخاب أعضائها لعهدة واحدة تمتد من 2014 إلى 2018.
إلا أنّ التحالفات السياسية والاتفاقات السرية والبحث عن التوازنات في إطار الصراع على الحكم وعلى استمرار النفوذ القديم بعد انتخابات 2014 عقّد عمل هيئة الحقيقة والكرامة وصعّب من مهمتها وجعلها في مرمى ضربات النظام القديم ولوبيات الفساد المالي وأذرعه الإعلامية مما أدّى إلى التعتيم عن الأهداف الحقيقية من إنشاء مثل هذه الهيئات في المجتمعات التي عاشت الانتفاضات والثورات والحروب الأهلية بل وأدّى إلى التضليل المقصود منه استهداف أعضاء الهيئة وأساسا رئيستها التي جابهت قصفا إعلاميا يوميا استهدف عملها وتاريخها النضالي وعرضها وشرفها، استهداف رُصدت له أموال ضخمة وتآمر تمّ التخطيط له بطريقة دقيقة من خلال امتداد نفوذ النظام القديم في المجلس التشريعي وفي السلطة التنفيذية وفي مختلف مؤسسات الدولة كان معزّزا بما سمّي “باتفاق الشيخين في باريس” والذي تمّ فهم محتواه فيما بعد في ما يتعلق بالعدالة الانتقالية يقوم على تسويات سياسية غير حقوقية تقوم على إصدار قوانين عفو ومصالحات إدارية ومالية تجعل من مسؤولي النظام القديم خارج المحاسبة وإفراغ العدالة الانتقالية من محتواها وجعل هيئة الحقيقة والكرامة هيكلا صوريا غارقا في صراعات داخلية وعاجزا عن القيام بالمهام التي أنشئ من أجلها إلى حين نهاية المدة القانونية. وقد تم التخطيط لذلك عبر توظيف بعض الأعضاء وبعض المندسين في الجهاز التنفيذي لإذكاء الصراعات كما عملت بعض المنظمات غير الحكومية المرتبطة بجهات خارجية على استهداف عمل الهيئة والرغبة في التدخل في شؤونها وتوجيه عملها ضد مصالح العدالة الانتقالية..
وكان من المفروض من خلال كل ذلك أن لا تقوم الهيئة باستكمال أعمالها وإصدار تقريرها الختامي وبذلك تكون الخطة قد نجحت وتم تصفية مطلب العدالة الانتقالية في فهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومساءلة المسؤولين عنها ومحاسبتهم وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان.
إلا أنّ المفاجأة كانت مدويّة لأعداء العدالة الانتقالية داخل الهيئة وخارجها عندما تم الإعلان عن استكمال التقرير الختامي وإحالة الملفات إلى الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية..
ولم يجد هؤلاء من طريقة لاستهداف التقرير سوى برفض نشره في الرائد الرسمي أولا (إذ لم يتم نشره إلا في شهر جوان 2020 إبّان حكومة الرئيس قيس سعيد الأولى ولعل ذلك ما سرّع في سقوطها وصعود حكومة ثانية متحالفة مع أعداء الشعب جعلت من لحظة 25 جويلية حتمية…) ثمّ بادّعاء تدليسه ثانيا.. “وقد ذكرت بن سدرين في إحدى التصريحات الإعلامية أنّ أحد المسؤولين ذكر لها أن رئيس البرلمان راشد الغنوشي آنذاك هو من رفع ضدها شكوى التدليس”.. ولعل ذلك لا يدعو إلى الاستغراب حين ندرك أن التحالفات السياسية المشبوهة هي التي أدت إلى استهداف العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية المنشودة.. ولا شك في أنّ تهمة تدليس التقرير الختامي الذي صادق عليه كل أعضاء الهيئة وتم تقديمه في صيغة أولية مسودة إلى الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي قبل نهاية عهدة الهيئة هي تهمة لا أساس لها من الصحة خصوصا وأنّ النسخة التي يجب الاحتجاج بها هي النسخة الرسمية المنشورة بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية علما وأنّ هذا التقرير لا يعطي امتيازا لأيّ كان وإنما يحتوي على حقائق نسبية تبعا لما توصلت إليه الهيئة من معطيات ويقدّم توصيات كانت ملزمة للحكومة تطبيقا لدستور 2014 لم تعد كذلك مع دستور 2022 وهو ما يعني أن تهمة التدليس أصلا تصبح في حكم العدم..
ومن بين المفارقات التونسية العجيبة أن من مارس الاستبداد والفساد والإفساد مازال ينعم بالحرية وحتّى هؤلاء المنسوب إليهم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان تتم محاكمتهم أمام الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية وهم في حالة سراح بالرغم أنّ منهم من هو متهم بالقتل وبالتعذيب حتى الموت وبالاغتصاب وبتدليس الانتخابات وبالفساد المالي والاعتداء على المال العام هؤلاء يُحاكمون وهم في حالة سراح وفي غالب الأحيان لا يستجيبون إلى استدعاءات المحكمة، في حين أن من قامت بتوثيق تلك الانتهاكات هي من يتم إيقافها وسجنها دون محاكمة!!
لذلك فإنّي أهيب بكل الضمائر الحيّة في بلدي بأن يوقفوا هذا العار الذي يمكن أن يلحق بثورة الحرية والكرامة وأن يتم إنهاء إيقاف رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة ومواصلة التحقيق معها في حالة سراح خصوصا وهي المناضلة ذات الثمانية عقود والتي لا يمكن أن تشكل خطرا على المجتمع ولا يمكنها مغادرة البلاد ليس لأنها ممنوعة من السفر فحسب وإنما لأنّي عهدتها تواجه بكل شجاعة الظلم وهي رمز النضال ضد الاستبداد والفساد (…)
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.