أبو يعرب المرزوقي
أحيانا استعمل وصف حكام الأنظمة العربية بالخيانة. وفي هذا الحكم الكثير من التجني الخلقي فضلا عن كونه متضمنا الكثير من عدم فهم منطق التاريخ وحاجة الضعيف للمطاولة في مقاومة القوي.
لم أعد أظن من يهادن العدو خائنا لأني لا اعلم عما كان يخطط له في تحقيق شروط المقاومة: فلا يمكن أن اعتبر من كان يعد للمطاولة بحق خائنا إذا اظهر المهادنة لعلمه بفقدان شروط المناجزة.
وقد يكون مثل الفرق بين حربي 67 و 73. وقد عشت الحربين أولاهما وانا طالب في السنة الجامعية الأولى في دار المعلمين العليا بتونس والثانية وأنا طالب في السنة الجامعة الأولى في باريس 4 بالسوربون بعد عملي مترجما في سفارة اليابان سنة 69 -70 ثم التدريس في الباكالوريا سنة 70-71.
فالحرب الأولى جعلتني اشك في جدية السعي لتحقيق شروط المطاولة بسبب سرعة الهزيمة والحرب الثانية شككتني في شكي الأول لأنها أثبتت حقا أن ذلك قد حصل فعلا وخاصة بين الحربين للعلتين التاريخيتين وهما ما اثبته حاليا دور الطوفان في فلسطين والربيع في سوريا:
- بفضل استعادة المحرك الروحي للشعب ومشاركته الفعلية في المقاومة (الإسلام لدوره).
- وبفضل وضع الرجل المناسب في المكان المناسب لقيادة الحرب والنصر المعنوي.
لكن الأهم من ذلك كله هو الفرق بين ما حصل بين بدايات الاستقلالات الشكلية واستئناف السعي للاستقلالات الفعلية وهي تجمع بين منطق الطوفان ومنطق الربيع المتعينين في المعركة الجارية حاليا.
ولهذا فقد أعددت للقضية التي عنونتها بالتخادع المتبادل بين القوي والضعيف.
فالأول يخادع لتحقيق الاستعمار التدريجي للضعيف والضعيف يخادع القوي بالتظاهر بالانخداع الذي قد يصبح عادة فيصبح انخداعا حقيقيا يحافظ على الكرسي وينسى تحرير الهدف البعيد أي تحرير الوطن لما يتحول إلى عميل للمستعمر ولا يسهم في إعداد شروط المطاولة المعدة لربح المعركة بالنقاط في غياب ربحها بالضربة القاضية.
وقد صار ذلك شبه تعلة بدعوى الإعداد لشروط الندية لمقاومة المستعمر بدعوى لا صوت يعلو على صوت المعركة الوهمية مع العدو في الخطاب العلني لمنع دور الشعب وعكسه في ما يدور تحت الطاولة مع العدو للحفاظ على الكرسي ونسيان المقاومة التي تؤجل “للكلند جراك في انتظار جودو كما حدث في الأنظمة المطبعة سرا أو جهرا..
ما يحصل حاليا وخاصة مع عنتريات ترامب وناتنياهو يمثل الفرصة التي كما أسلفت لاختبار الاستعداد إن كان قد حصل لأن عرب اليوم غير عرب 48 وهم الآن لو كانوا صادقين قادرين على إلجام من ألجمته حماس وهي فصيل صغير مدة سنة ونصف وأفقدته كل سردياته التي كانت تحميه.

لذلك فإني محتار في تأويل موقف ملك الأردن: هل كلامه نابع عن تشاور بين العرب لعلمه أنه قد اختير أول المحاورين للمهبول ترامب فاستعمل معه التخادع بدليل شرطه بأن يكون ما يطلبه ترامب بمنه لصالح الجميع ففيه دلالة شديدة الذكاء لأن ترامب يدعي الحرص على حياة الفلسطينيين الذين ينوي تهجيرهم لأن غزة تحتاج لتأهيل واستعمل اكثر فائدة.
فلكأنه قال له إذا ذلك لفائدة الجميع فيكفي أن نؤسس للدولة الواحدة بين إسرائيل وفلسطين والأردن ولا حاجة للتهجير أو لنعد إلى تقسم 47 فلا نحتاج للتهجير. ولما كان لا ارجم بالغيب فإني ارفض اتهام الملك بالخيانة. لأن كلامه كان موزونا ولعله معتمد على مشاورات بين العرب بدليل كلامه على انتظار الموقف الذي ربما يعتبر الممثل الأهم في المعركة إن وجبت. ولما كان يستحيل أن تقبل مصر ما يطلبه ترامب لأنه يعني إعادة القضية إلى 48 مع عرب لم يبقوا على ما كانوا عليه من العجز والأمية. وهم الآن قادرون على اكثر مما قدرت عليه حماس وذلك وحده كاف لردع الجبان ترامب لأنه لن يستطيع خسران عقودا أخرى في معارك شبيهة بالتي حصلت بعد 11 بسبتمبر ما يجعله خاسرا بإطلاق لإشكالية التنافس مع الصين وروسيا ووقوفهم ضده كاف لردعه وجعله هو الذي سيفرض على إسرائيل القبول بالحل العربي حتما.
ولست أقول هذا الكلام دفاعا عن الأنظمة العربية بل لأني متيقن من أنهم سيفعلوا ذلك ليس حبا في فلسطين ولا حتى في الكرسي بل لأنهم باتوا واثقين من أن القبول بالتهجير يعني تعميم الحرب لأن حماس لن تبقى مكتوفة الأيدي بعد التهجير: وما كانت تقدر عليه وهي محاضرة ستقدر على أضعافه بعد انفتاح الأجواء على مصراعيها في سيناء والأردن.
فيكون ما يخشاه الكل من هذا التوسع هو الدافع الأعمق للرفض حتى لو هددهم ترامب وناتنياهو بعنترياتهما التي لم تعد تخيف إلا الحمقى الذين يتصورونهما قادرين على خوص هذه المعركة: فلم يعد لهم إلا تفوق واحد وهو السلاح النووي.
وهذا السلاح على أهميته لا يحسم أي حرب ليس لأن استعماله قد يكون شبه مستحيل إذ يمكن لإسرائيل أن تهدد به من يخيفها في الإقليم أي تركيا وإيران لتصورها أن العرب لا حول لهم ولا قوة: وهو الخطأ القاتل. ذلك أن للسلاح النووي مفعوله على صاحبه اكثر منه على عديميه:
فكل طاقة القواعد النووية يمكن أن تصبح اخطر على أصحابها منها على أعدائهم لأنه يمكن لهؤلاء تفجيرها بالصواريخ في عقر دار أولئك: لذلك ففرنسا مثلا لا يمكن أن تهب الجزائر أو تركيا لعلمها بهذه الإمكانية.
وما افهمه أنا لا يمكن ألا يفهمه استراتيجيا الغرب ومن ثم فهم لم يبق لهم ما به يمكن أن يرهبوا العرب والمسلمين. كل القضية هي أن الغرب لم يفهم بعد أن الحكام العرب مهما تبلد ذهن بعضهم فإنهم يفهمون الآن أن عدوى الطوفان والربيع لم تبق لهم مهرب من ضرورة طاعة شعوبهم وإلا فهي نهايتهم إذا اختاروا غير ما فرضاه في عقول الشباب وإرادتهم للتحرر من التبعية الحضارية وهم أحفاد الفاتحين. ومن غباء الانقلابيين في تونس أن تحالفهم مع ايران وفرنسا وبال عليهم لأن هتين القوتين أصبحتا في خبر كان.
لكل ذلك فإني -كعادتي- متفائل ومطمئن أن الاستئناف لم يبق أي إمكانية لإيقافه حتى لو تحامق ترامب وحاول تكرار ما حصل بعد 11 سبتمبر الذي كان ضده على حد علمي لذلك فإني قسته صحاف العراق: بهبار ولا يدري ما يفعل يكفي أن يجد بعض صمود من الحكام العرب الذين لم يبق لهم أي ورقة من أوراق التوت حتى يخرج من الشرق الأوسط كما ينوي في سوريا.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.