الأربعاء 5 فبراير 2025

نعم انتصرت غزة

نور الدين الغيلوفي

انتصرت غزة

1. قريب لي قال لي عند اندلاع طوفان الأقصى، في أيّامه الأولى، وكان خائفا من أن يُفنيَ جيشُ الاحتلال المدعومُ من دول الدنيا المقاوَمةَ، قال: “لو انتصرت المقاومة سأكمل حياتي متعبّدا”. قلت له وقتها المقاومة بما أنجزته يوم 7 أكتوبر رسمت أفق انتصارها وغرست أشجار بقائها. وأتى أمر انتصارها، فلا تنتظره.

انتصرت غزّة
انتصرت غزة

2. في اليوم التالي لطوفان الأقصى شنّ جيش العدوّ حربه الضروس على قرية في الأرض اسمها غزة.. حربا لا أظنّ أنّ الأرض شهدت مثل شراستها.. جعل رئيس وزراء دولة الاحتلال لحربه على غزّة أهدافا صريحة وأخرى مضمَرة.. وشرع في دكّ المربّعات السكنيّة بالقنابل والصواريخ والمسيّرات والراجمات والمدرّعات والدبابات، ولم يترك سلاحا صنعته دولة من دول الأرض دعمته به إلّا جرّبه على شعب غزّة. دول العالم “المتحضّر” جميعُها تداعت للقضاء على المقاومة في غزّة حتّى استحال القطاع إلى خراب.. وصار سكّان غزّة شهداء في السماء، والأحياءُ منهم فوق الأرض أشتاتا بين خيام في العراء لم يستثنها جيش العدوّ من قصفه. لقد أراد المحتلّ أن يقلب الطوفان، بنيران السماء التي يحتكرها، على المقاومة، وفي ظهره أمريكا العظمى وبريطانيا التي كانت عظمى وفرنسا وإيطاليا وروسيا ودولٌ أخرى تابعة، وأمامه دول عربية استعملها كاسحات ألغام وماسحات سلاح وأجهزة استشعار. ووقفت غزة تدافع كلَّ هؤلاء عنها وحدها بلا ظهير.

467 يوما من عمر الناس لم تتوقّف الحرب ولم تستسلم غزة. ظلّت ثابتة تلعق جراحَ يدِها وتدفع العدوّ عنها بيدها الأخرى. وقد تخلّى عنها الشفيق وتبرّأ منها القريب وخذلها جميع أدعياء نسبها. كانت المعاناة مركّبة.. يأتي العذاب من جيش العدوّ ويأتي من الأقربين أضعافا. وخذلان ذوي القربى أشدّ.

3. استمرّت الحرب كلّ هذه الأشهر ولم تتزحزح المقاومة ولم تستسلم غزّة. لقد أفشلت الجيش الذي لا يُقهَر، بل قهرته رغم عَدّه وعتاده، ومنعت رئيس وزراء العدوّ من تحقيق أيّ من أهدافه. بينما نجحت المقاومة في تحقيق جميع أهدافها، من ضربَتِها الأولى بنتِ خداعها الاستراتيجيّ، رغم ما فعله جيش الأعداء بالمدنيين الأبرياء ورغم ما “أنجزه” من خراب يراه العالم في كلّ لحظة من لحظات زمن الحرب الطويل.

4. ظلّت المقاومة الإعجازيّة تتغذّى من يوم 7 أكتوبر لم تنثن ولم تفتر. لقد رسمت في فجر ذلك اليوم أفقا لم تنزل عنه 467 يوما بلياليها ونهاراتها ودمائها وشحّ مائها وأشلاء أبنائها. العدوّ ركب مدرّعة انتقام لم يركب غيرها. تعب الجلّاد من القصف والعسف ولم تنحن المقاومة ولم تختف ولم تتخلّ ولم يهاجر أهل غزّة أرضَهم. لا أظنّ شعبا من شعوب الأرض يرى من الأهوال ما رأوا ويتحمّل كما فعلوا. تحمّل أهل غزة وظلّوا نابتين في أرضهم مثل أشجار لا تستطيعها الأعاصيرُ تأتيها من كلّ النواحي مجتمعة.. وتعجز دونها.

5. هل انتهت الحرب؟

لم تنته الحرب ولكنّ غزّة وضعت عنها، بهذا الاتفاق ، أوزارها. هي أوزار كلّ العالم حملتها على ظهرها ولم تنحن. عادت غزّة إلى معتاد حياة الناس فوق الأرض يجرّب أطفالها أن يتنفّسوا غير دخان الحرائق وأن يروا غير الدماء والأشلاء.. وأن يجدوا دفء الغطاء.. خرجوا من تحت الخيام يرقصون رقص المنتصرين رغم جبال الأوجاع.. ورغم اليتم والقهر والتَّرك والخذلان.
عجيب أمر هؤلاء الأطفال. لم يكرهوا المقاومة ولا حنقوا عليها بما “فعلته بهم”. خرجوا فرحين بتوقّف الحرب.. يكبّرون ويسجدون شكرا لله وحده لا شريك له ولا منّة لأحد عليهم.. ويستقبلون “الضيف” الأسطورة الخفيّةَ بأهازيجهم ويتغنّون بالقسّام وكتائبه.

6. ألم يتعبوا؟

يبدو أنّهم من معاشرتهم لألوان الموت أفلتوا من كلّ التعب وصارت الحياة مولّهة بهم لا ترى أجدر منهم بها. هذه الحياة غانية قدّمت لها غزّة أجلّ أبنائها وزهرة بناتها لتكون الحياة استحقاقا للباقين على قيدها ولا فضل عليهم لأحد.
تعبوا.. وتألّموا وبكوا وصرخوا ولم يسمع لصراخهم أحد. واليوم ينبعثون من عند الموت المحيط بهم من كل مكان يرغمون الحياة عليهم.. بستعيدونها عنوةً بكلّ العنفوان والنخوة. خيّم الموت عليهم ولم يموتوا.. ببساطة لأنّ الشعوب لا تموت. دفعوا مهر حياة ليست كالحياة وعادوا من مستحيلهم إلى الممكن. لقد أرغموا الحياة على الإمكان كما لا يخرج حيٌّ من ميّت. سافروا في التعب بعيدا ولكنّهم عادوا من رحلة تعبهم فرحين إلى حياة بستحقونها بما دفعوا لقاء الإبقاء عليها. هم الذين أبقوا على الحياة رغم غطرسة الموت المخيِّم. كأنّهم، بما صبروا وبما صابروا، إنّما كانوا يفتكّون الحياة من الموت لتبقى لهم ولغيرهم.. الحياةُ.

7. هل انتصرت غزة؟

كتب كاتب مغربي اسمه رشيد إيلال، ذاك الذي طاف الأرض ليقول إنّه أسقط أسطورة اسمها البخاريّ.. فانتشر واشتهر بما فعله فيه البخاري. كتب هذا الكاتب تدوينة قال فيها:
(بدون حياء وبوجه وقح يطلعون علينا فرحين (بانتصار) – جعله بين قوسين – مزعوم لعزة، عجبي ثمّ عجبي !!!).
نقول لهذا الكاتب ولأمثاله :
لا تذهب بعيدا. انظر في تفاعل أطفال غزّة، ترَ فرحهم بتوَقّف الحرب وبعودتهم إلى أمكنة بيوتهم. ذاك، يا فطحل، اسمه انتصار.

انظر في تصريحات متشدّدي العدوّ تفهمْ منها أنّ غزّة خرجت من الحرب، رغم الأهوال، منتصرة. انتصارها أنّها منعت العدوّ من تحقيق انتصاره. العدوّ الجبّار لم ينتصر، والمقاومة الضعيفة لم تنهزم. ولقد انتصر من لم ينهزم.
العدوّ جعل له من حربه على غزّة أهدافا لم يحقّق منها هدفا واحدا يمكن أن يفرح به.
المقاومة لم تستسلم، ولم تلق الراية البيضاء،
وحماس لم تزُل من المشهد، بقيت مثل نبات لا يقدر عليه الموت،
والأسرى لم يُستعادوا. لم يستطع العدوّ استعادتهم فقتل منهم لينقص من أعبائه،
والشعب الغزّاويّ التحم بالأرض لم يغادرها رغم أهوال الحرب ورغم كلّ المناورات.. ورغم خطط التهجير الطوعيّ والقسريّ.

الخراب الذي قد يجعل منه الحانقون على المقاومة حجّةً خرابُ النفوس شرٌّ منه. أبناء غزّة خربت ديارهم ولم تخرب نفوسهم.. لذلك انبعثوا من تحت الأنقاض يرقصون لتوقف الحرب فرحا بحياة لم ينجح المحتلّ في سلبها ويعِدون ببناء غزّة كما لم يبنوها من قبل.
إنّه العناد شقيق الكبرياء.. تحبّهما الحياة.. ليس أولى بالحياة بعد كلّ هذا البلاء والبلوى، من أبناء غزّة.
أولاء هم بقيّة سيّد العصا ألقى بها ولن تقع حتّى تحقّق الوعد بدحر المحتلّ عن أرض الأحرار..
غزّة البهاء والإباء.
قاتل الله الأغبياء،
ورحم الشهداء.


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

نور الدين الغيلوفي

تهمة اسمُها راشد الغنوشي

نور الدين الغيلوفي (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ …

نور الدين الغيلوفي

حكام الأمة أعداؤها

نور الدين الغيلوفي 1. لم يكن عاقل ينتظر أن يكتب الصحافي الأمريكي بوب وورد ما …

اترك رد