14 جانفي.. ما الذي بقي من الثورة
نور الدين الغيلوفي
1. اليوم الذي هرب فيه بن علي ملتحفا بأسراره، صار ذكرى تسمّى عيد الثورة. ولا تزال الثورة تعودنا وتعيدنا رغم الأعطاب التي جرت عليها.
الثورة ظلّت حلما للجميع على تناقض بينِهم. وقد جاءتهم مثل كلّ ما يأتي من الواردات الإلهيّة بغتةً. نعم، الله في التاريخ وليس خارجه. ولكنّ مشكلة الخلق أنّهم لا يقرأون رسالة ولا يفهمون دلالة.. ولا يقدّرون ما يرد إليهم من كلمات.
2. امتُحنت النخب الثقافيّة والسياسيّة بالدكتاتوريّة أكثر من نصف قرن فعجزت عن ردّها. ثمّ جاءها الشعب بامتحان الحرية فأخفقت في امتحانها كأوّل أمرها.. ولم تصبر على حرياتها أكثر من عشر سنين.. رفستها كما ترفس بعض الدوابّ صغارها.. ولم تلتفت.
حين هرب بن علي تركهم لأنفسهم، غير أنّ أنفسهم كانت أمّارة بغير الخير. ففسقوا في الثورة وأهدروا دمها لقاء لا شيء جَنَوْهُ، بعد حين، ولا يزالون. كلّ الذي جاء بعد قتل الثورة لا شيء في اللاشيء.
3. قاومت الثورة رياح الردّة العاتية عشر سنين ثمّ أصابها الإعياء فداستها الثورة المضادّة جاءتها في ثياب برّاقة سرعان ما انكشف للعموم زيفُها. هاجمها برد الشتاء وسطا عليها حرّ الصيف. ووجد الشعب الذي جاء بالثورة نفسه ملقى على قارعة الطريق مثل يتيم ينكر الكلّ نسبه، بعد أن كان الجميع يلهجون باسمه.
المشكلُ الجميعُ يقرّون به. ولكن لا أحد من هؤلاء الجميعِ يقرُّ بنصيبه من الخطأ.
هؤلاء لا أحد من بينهم يعترف بخطأ أو بتقصير.. هم أولاء يكثرون عند الطمع ويقلّون عند الفزع. ولأنّ ذلك من خصالهم فإنّ الثورة تنكرهم. خرجوا منها فتركتهم غير مأسوف عليهم.. وعادوا إلى معتاد تسكّعهم.
4. ولكنّ الثورة لا يزال نبضُها. ونبض الثورة في كلّ هذا الجسم العربيّ الوسيع.
من كان يظنّ أنّ الثورة السورية بعد كلّ ما عاناه الشعب السوريّ من تقتيل وتشريد وتنكيل تنجح في اقتلاع طاغية سوريا بشّار الأسد فيهرب كما هرب بن علي من قبل؟
لقد بدأت الثورة المضادّة، في النطاق العربيّ، ترتّب أمرها مع الثورة السوريّة لتكون لها جولتها هذه التي تزدهي بها في غير سوريا. غير أنّ نجاح الشعب السوريّ في اقتلاع شجرة الدكتاتوريّة الخبيثة سيحفّز الشعوب العربية الأخرى لتحذوَ حذوه وتنفخ الحياة في ثوراتها.. وفي الثورة على الطغيان ستتنافس الشعوب.. كما تنافست أوّل مرّة سنة 2011. كان يوم 14 جانفي محفّزا للشعوب العربيّة.
5. يخطئ هؤلاء الذين يلعنون الشعب الذي ينتظرون منه أن يجلب لهم ما لم يقدروا عليه فلا ينزل عند رغائبهم ولا يأتيهم بما يريديون. الشعب، في كلّ الدنيا ليس جيشا منظّما يسير على إيقاع واحد ينجز ما يُطلب إليه تنفيذا لأوامر فوقيّة. الشعب هو مجموع الناس.. والناس في غالبهم هم نتاج المنظومة السائدة تعمل على برمجتهم ليكونوا لها تابعين. غير أنّ الناس لا يجتمعون على الخضوع للرداءة، وإلّا لكان الشعب السوري مدرسة في الخنوع مع نظام لم يفعل، نصف قرن من الزمان، شيئا غير إخضاع الناس ليكونوا له أتباعا. هؤلاء لم يتبعوا نظام بشار بل أتعبوه وحملوا عليه حتّى هرب في جنح الظلام كما هرب بن علي. وكلّ طاغية يأتي عليه ليل يهرب فيه.
6. ستعود الثورة. ولن يكون للنخب التي رفست الحرية وعبثت بالديمقراطية مكان تحت شمسها. سيُدفعون إلى الظلام لينساهم الناس وينسوا ما كان من لوثاتهم.
أمّا حركة النهضة فستتراجع وربّما تتحلّل مثل حزب الرفاه في تركيا. لقد انحنت، في الموجة الثورية الأولى، لشركاء الوطن فلم يعترفوا لها بوطن وانقلبوا عليها. طردوها شرّ طردة مثلما فعل بحركة الإخوان في مصر خصومُها، بسبب فيتو مضروب ضدّ الإسلام السياسيّ ممثّلا في الحركات الإخوانية من قبل الدول المتحكّمة في العالم ومن ورائها الدول العربيّة. حركات الإسلام السياسيّ التي اعترفت بالدولة الوطنية وعملت على الإندماج فيها باعتبارها دولا إسلامية لا ينبغي أن تقصيَ مسلما نسيت أنّ الدول إنّما هي الإسلام السياسيّ الذي يرفض كلّ إسلام سواه. لقد أجمعت الدول العربية على احتكار الدين في ترجمة بائسة للإسلام السياسيّ. وهل أكثر من الحكّام العرب استعمالا للدين لأكل الدنيا؟
ستتراجع حركة النهضة مثل الإخوان إلى الخلف بسبب فشلهم في التعامل مع مخالفين لا يرون لهم وجودا. لقد أرادوا أن يكونوا المسيح في حضرة كهنة وكتبة لا مطلب لهم غير رأس المسيح. بعد الذي جرى لهم اللحظةُ لم تعد مواتية لهم. النهضة التي لم تلبس قميص أبي محمّد الجولاني لن تكون قادرة على ارتداء بدلة أحمد الشرع.
لقد كانت رهانات النهضة خاطئة حينما انطلت عليها حيلة مخالفين لها ظهروا لها في مظهر ديمقراطيّ فرضيت بهم وهم يكيدون لإقصائها في العلن وفي السرّ. الديمقراطية كانت تقتضي، لتعيش، أن تكون لها مخالب تدافع بها عن نفسها. الورد نفسه يحتمي بأشواكه أما النهضة فقد أرادتها سلطة بلا شوكة فساعدت أعداءها على اقتلاعها.
الثورة باقية ولكنّ الولد شبّ لم يعد في حاجة إلى أم ولد تسلمه للصليب.
7. 14 جانفي مرماه في غزّة الطوفان وفي دمشق الانتصار. الثورات تنتصر ولا تموت. الذي قال “إذا الشعب يوما أراد الحياة” هو ذاته الذي قال (حذارِ فتحت الرماد اللهيب – ومن يبذر الشوك يجنِ الجراح).
أمّا عن الحوار فلا حوار. البُغاة لا يتحاورون. هم أنانيون. ربّما يخافون ولكنهم لا يتحاورون. الحوار يكون بين المختلفين بل بين المتناقضين. الحوار يقتضي نديّة بين المتحاورين ويتطلّب تنازلا وخفضا للجناح. أمّا الذي يرى في نفسه مبعوثا سماويّا فريدا بلا نظير جاء بحلول العالمين في صندوقه السرّيّ، فلا حوار يسعه يدخل فيه مع أحد.
إبليس حاوره الله تعالى في قرآنه، أمّا أبالسة الحكّام العرب فليس لهم في “قرائين” هؤلاء الحكّام غير اللعنات والصواريخ التي على منصّاتها تنتظر الانطلاق.