مقالات

“ينطقوك من جنابك” مهما حاولت تجنب الخصام

أبو يعرب المرزوقي

لا جدال في الحرية الأكاديمية المطلقة فهي شرط كل إبداع متوقعا كان أو غير متوقع اعني حاصلا بالصدفة وليس مطلوبا ومتوقعا في مشروع بحث علمي غالبا ما يكون عملا جماعيا.

ولا جدال كذلك في منع طلب ما في سرائر الباحثين تفتيشا عن النيات وراء اختيار الباحث مجال اهتمامه. فكل دوافعه صريحها ومضمرها حرة بإطلاق. ومن ثم فهذا “التفتيش” أيضا من العيب التعليق عليه.

ما المشكل إذن في الجدل حول موضة البحث في “الإسرائيليات” ليس بمعناها عند القدامى بل في الدينيات بمعنى الإسلامولوجيا التي هي في الحقيقة من المفاعيل الجانبية للإسلاموفوبيا.

هذه اسميها إسرائيليات لأنها انطلقت من زعم صاحبها الذي هو مستشرق يهودي أوهم قراءه أن ما في الإسلام من معان دينية كلها انتحال من اليهودية: فيكون الخاتم لصا منتحل نصوص.

فما الفرق بين النوعين من الإسرائيليات: التي تبناها المفسرون في القديم والتي تبناها نقاد القرآن من الإسلامولوجيين في الحاضر وجلهم من الآداب العربية أي ممن لم يكن تكوينهم الأكاديمي معدا لمثل هذا العمل.

يعني “هي صنعة” رعوانية متأخرة بعد التخرج في اختصاص وبعد مكملاته التي عادة ما تكون لتوضيح مؤثرات الأدبية فيها وليست اختصاصا في التاريخ ولا خاصة في الحضارات لأنه لا يوحد علم واحد فيها بل هي اعقد حتى من الطبيعيات.

لكن الفرق بين نوعي الإسرائيليات هو أن القدامى وقعوا في خطأ عن حسن نية بمعنى انهم كانوا لا يميزون بين ما في القرآن من شواهد يقدمها لدعم منهجه في نقد التحريف بمنطق التصديق والهيمنة وبين ما يعرف به الديني في كل دين.

في حين أن الثانين لم يقعوا فيه بحسن نية بل اعتمدوه بسوء نية إذ أضافوا عليه ما هو ابعد غورا من “عمى البصيرة”: وهو تجاهل الموقف القرآني القائل إن الديني في الأديان واحد وهي لا تختلف إلا بأمرين:

فالاختلاف بينها هو في ما يطرأ عليها من تحريف أولا وفي ما تعلقت الرسالة به من عوائق تاريخية ظرفية جاءت الرسالة لعلاجها. ومن ثم فوحدة الديني لا تنفي تعدد الأديان.

بل هي تثبت أن هذا التعدد علته تاريخية ظهور المعوقات التي تعالجها ولذلك فكل أمة تلقت رسالة بلسانها لعلاج العائق التاريخي الذي حصل في حقبتها والغالب في عصرها.

والرسالة الخاتمة وحدها هي التي تجمع بين الوجهين أي إنها رسالة بلسان خاص -العربية مع أسلوب درامي فيه مشاهد تجعله قابلا للفهم بأي لغة- لأنها موجهة لكل لبشر. وكونها موجهة لكل البشر هو الذي يجعلها ذات دورين:

الأول هو تجاوز العقبات الخصوصية التي تعلقت بالمستوى الأول من الرسالات بنقد ما نتج عن تحريف الديني خلال علاجها الانتهازي.
(وقد جمعت هذه المعوقات في سورة هود كما بينت في غير موضع وهي سبعة لا غير موضع من محاولات شرحها ضمن مشروع التفسير).

لكنها تكررت في التاريخ ومن ثم فالرسالات الجزئية وإن كانت بعدتها فهي تتكرر فتكثر الرسالات الجزئية. ويبقى الحل هو ما ورد في هود وأخواتها وهي التي شيبت الرسول الخاتم.

والثاني هو تقديم البديل عند جمع كل العقبات التي يتحدد بها تاريخ الإنسان من حيث هو إنسان كونيا ليكون علاجها كونيا في عالم الشهادة دون فرضه على أساس إرجاء الحكم بينها ليوم الدين مع بيان العناصر المقومة للديني الواحد في كل دين وهو الإيمان بالوحدانية وبالبعث والعمل الصالح صراحة مع شرطين مضمرين وهما أن يكون ذلك ثمرة التسابق في الخيرات (المائدة 48) لتبين الرشد من الغي الذي يؤدي إلى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله (البقرة 256) الذي يؤدي حتما إلى الإيمان بالبعث والعمل الصالح.

الإسرائيليات بالمعنى الحديث أي ما تستند إليه خرافة الإسلامولوجيا هي التي تتجاهل ذلك كله وتعتقد أن الأديان مجرد ظاهرة اجتماعية يحددها ما يسمونها الواقع التاريخي والاجتماعي. فيحاكمون النص بالرؤية الماركسية التي هي في الحقيقة تشويه للرؤية الهيجلية كما بينت عند تحليل مطلقات هيجل الخمسة بمبدئه الخرافي “الواقع عقلي والعقل واقعي”:

  1. العلم المطلق
  2. والدين المطلق
  3. والتاريخ المطلق
  4. ووحدة الوجود المذوتة (بعكس المطبعنة عند سبينوزا)
  5. وحصر وجود الله في كونه فكرة في ذهن الإنسان وفي نظام الطبيعة لان مسار التاريخ “ثيودوسيا” ومن ثم فهو الحكم الأخير نفيا ليوم الدين.

وطبعا فمن يعتقد ذلك لا معنى لكلامه على الدين فضلا عن الزعم حيازة العلم باختصاص مقارنة الأديان وخاصة إذا تعلمها من رسالة الشرفي.

في معارك المتكلمين المسيحيين والمسلمين يعني تخريف أكاديمي حول تخريف “معارك حارزات” “خادمات” عند سلطانين مسيحي ومسلم خلال هزيمة الثاني للأول.

تلك هي علة “النطق من الجناب”. ذلك التخصص في الأديان في الجامعات الغربية التي تحترم نفسها له عدة شروط أهمها ليس التعلم “سير لو تا” “sur le tas” “التعلم من خلال الممارسة العملية” خلال سد حاجات الدروس المرتجلة في جامعات عقاب الزمان.

وفي الغالب يكون من يختار هذا التخصص من المؤمنين بالفرق بين الأديان الطبيعية -التي من جنس أديان الشرق الأقصى- أي التي لا يؤمن أصحابها بالوحي ولا بالأنبياء والرسل حتى لو لم يكونوا مؤمنين بغير الأولى.

لكنهم يميزون بين الظاهرتين. ومعنى ذلك انهم لا يستثنون ما ينافي مطلقات هيجل الخمسة: فكل الإسلامولوجيين مستشرقيهم وعربانهم تهيجلوا (هيجل) أو تمركسوا (ماركس).

لكأنهم لم يسمعوا بمسلمات كانط وحتى بضمانة ديكارت وقبل ذلك بالمدرسة النقدية الإسلامية بغزاليها وابن تيميتها وابن خلدونها الذين بينوا سخافة القول بالعلم المحيط بالوجود والعمل التام المغني عن المنشود.

لا يقبلون مسلمات كانط الثلاثة الصريحة -حرية الإنسان وخلود النفس ووجود الله- وما يترتب عليها أو ما يحوج إليها أي تحقيق العدل يوم الدين وشرطه البعث.

وذلك من حقهم. لكن ليس من حقهم اعتبار موقفهم علميا. وليس من حقهم خاصة تجاهل أن ذلك هو بالذات عين ما يعتبره القرآن من شروط الوعد الصريح في آيتين معلومتين بـ”لا خوف عليهم ولا هم يحزنون” في كلامه على أربعة أديان بالإضافة إلى الإسلام اثنين منها منزلين واثنين طبيعيين: اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئية.

بل ويضيف القرآن في الحج 17 المشركين، ولكن لا يعد حينها بهذا الوعد ويبقي مع ذلك شرط الإرجاء للفصل يوم الدين. حتى لا يقع تناقض بين تعليل التعدد الديني أمرا واقعا ووحدته أمرا واجبا.

وهما شرطا التسابق في الخيرات ليكون تبين الرشد من الغي فعلا ذاتيا حرا ليكون الدين لا إكراه فيه. كل ذلك يتجاهله “علماء” عقاب الزمان في فلسفة الأديان “بالهكي والتعلم ص”سير لو تا”. وطبعا استثني منهم من آمن بدين غير الإسلام منزلا كان أو غير منزل وقام بما عليه حتى يحترم الفن بقواعده فتعلم ذلك الدين. ولا يعاب عليه حينها إلا عدم احترام هذه المعطيات إن فعل.

إذا احترمها لم يعكز (عكاز) مثل الذين يدعون الاحتكام إلى ما يسمونه لواقع والظرفيات الاجتماعية والتاريخية لتقييم معاني القرآن ظنا أن الواقع قابل للعلم المحيط وانه مطابق لرؤية ماركس المشوه لرؤية هيجل للتاريخ والواقع مع “دفاع عقلي وعلمي” فيا خيبة المسعى.

وعندئذ يصبح السؤال عن الدافع وفحص النيات وإن كنت لا أميل لذلك لكن والظرفيات تدفع إليه دفعا: ذلك أن دور هذه النيات في تيسير الشهرة.
والاعتراف من قبل من ينصب النجوم والنخب في العالم الغربي وعند توابعه من العربان قد يدفع إلى الوصل بين تعاظم الظاهرة والتطبيع.
والله ورسوله اعلم: فالارتزاق لم يبق محصورا في الإعلام بل تعداه إلى الأكاديميات والسياسيات فعمم سكارى الزبيب ودراويش العلم السريع من جنس “الفاست فود” “وجبة سريعة” بعد أن صار الدرهم هو المعبود ولتسألوا “المؤمنون بالنقود بلا حدود” وتنسخها في “تكوين” التي تخرج لنا كل بليد يتوهم انه مفكر عبقرية ورصين.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock