مقالات

متلازمة الغباء الدلاّعي

عبد اللطيف علوي 

ها قد بدأ موسم الدلاع، وبدأ موسم الخسارات والخيبات الكبرى. مع كلّ دلاّعة مهدورة، أشتريها وأدفع فيها حبيبات قلبي، ثمّ ألقي بها كاملة في الحاوية، وأنا أشدّ حزنا عليها من فؤاد أمّ موسى وهي تلقي بفلذة كبدها إلى اليمّ.

الدلاع
الدلاع (البطيخ)

أصل الحكاية لا أعرف إلى ماذا يعود بالضّبط. هل يعود إلى سوء الحظّ الأزليّ، أم إلى نوع خاصّ من الغباء تجاه الدّلاّع تحديدا، يمكن أن نسمّيه مثلا “متلازمة الغباء الدّلاّعي”، وإن كنت أرتاح إلى الأولى، لكنّني لا أستطيع أن أنكر الثّانية.

بما أنّني رجل العائلة، كان عليّ أن أثبت رجولتي دائما في كلّ شيء، حتّى في شراء الدّلاّع، وقد حرصت على أن يبقى شراء الدّلاّع من اختصاصاتي الحصريّة، لأنّني أكره وقفة الحريم أمام باعة الدّلاّع الّذين لا أعرف لماذا أراهم دائما أخبث من غيرهم وعيونهم زائغة أكثر من غيرهم أيضا. ربّما لأنّي أخمّن أنّه لطول عشرتهم مع الدّلاّع قد يرون كلّ ما يقف أمامهم دلاّعا من نوع آخر، أو ربّما يعود الأمر إلى نوع من الحقد الباطن تكوّن عندي عليهم، بسبب ذلك العدد المهول من الدّلاّعات والدّلاليع والدّليلعات الّتي يغشّونني فيها كلّ عام، أو أغشّ فيها نفسي أمامهم لكنّهم لا يتدخّلون كي ينقذوا شرفي، يتركونني لمصيري.

وأنا أشعر دائما في قرارة نفسي، أنّ هؤلاء النّصّابة النّصّابين، يعرفون بالضّبط ماذا يوجد داخل كلّ دلاّعة، وبإمكانهم أن يروها كما يرى الله الغيب. يعرفون ماهي الحمراء الحلوة اللّذيذة المشحّمة وماهي الصّفراء الماسطة المريضة، لكنّهم يظلّون ينظرون إليّ وأنا أقف أمام النّصبة مثل خبراء الأسلحة، أو مثل رجل من رجال المخابرات، نافشا ريشي، واضعا يدي في حزامي أو في جيبي، أنظر إلى النّصبة نظرة شاملة في البداية، ثمّ أتقدّم خطوة في اتّجاه معيّن، وأركّز نظرات فاحصة على دلاّعة بعينها، ثم أقترب منها وأنقر عليها برؤوس أصابعي، ثمّ أحملها وأقرّبها قليلا إلى أذني، كأنّي زوج مخدوع يصغي إلى بطن زوجته الحامل، أحاول أن أضغط عليها من الطّرفين فأجدها يابسة صمّاء، فألعن الشّيطان وأقول تلك عادة قديمة لم تعد تنفع الآن، كانت تنفع مع الدّلاّع الكبير من نوع “الماص”، أمّا اليوم فقد صار الدّلاّع مستديرا مكركبا لا يساعد على أيّ شيء. أنظر إلى البائع كأنّي ألتجئ إليه أن ينجدني ولكنّني أحافظ على نفس النّظرة المتعالية كي لا يظنّ أنّني المغفّل الّذي يرزقه الله به كلّ يوم في مثل هذا الوقت. أقول له وأنا أحاول أن أستدرّ عطفه: “أنا أمرّ كلّ يوم من هنا. من مصلحتك أن لا تغشّني أبدا، وإلاّ ستخسر زبونا مضمونا طيلة الصّيف”. يكون هو قد أخذت منه حرارة الشّمس الوقّادة ليوم كامل، وقد مرّ عليه عشرات الكذّابين من أمثالي، فيكتفي بأن ينظر إليّ من فوق إلى تحت، وأحيانا يدرك تماما أنّني نفس ذلك الغبيّ الّذي يأتيه دائما في أحلامه السّعيدة، فينصحني بأكبر دلاّعة في النّصبة وهو يقسم بأنّني سوف أترحّم على والديه، ويراهنني بأن أعود إليه إذا وجدت فيها أيّ عيب وآخذ النّصبة كلّها. بعد ذلك يهمّ بأن يبقرها بالموس، فأقول له : “لا داعي إلى ذلك”، وأنا أفكّر كيف سأحملها على كتفي أو بين ذراعيّ وهي تنزّ ماء.

عندما أصل إلى البيت تسارع زوجتي وبناتي إلى الاحتفاء بها احتفاء خاصّا، أشتري كلّ أنواع الغلال، لكنّ الدّلاّعة وحدها تظلّ دائما تحظى بذلك التّرحيب وتلك الحظوة، يتحسّسها الجميع ونزفّها إلى الكوجينة (المطبخ)، نضعها على الطّاولة وأقف أنا أمسك السّكّين كطبيب يهمّ بأن يجري عمليّة على البطن المفتوح، وحولي يقف بقيّة العالم يرقب ما يحدث وقد حبس أنفاسه، كما لو أنّه أمام تنفيذ لأوّل تجربة نوويّة في التّاريخ. أغرس رأس السّكّين عموديّا وأنا أنتظر أن أسمع خشخشتها اللّذيذة وهي تتشقّق من تلقاء ذاتها، وفي ذلك علامة على نجاح التّجربة. لكنّني لا أسمع شيئا، وأواصل ذبحها كما لو أنّني أذبح عجلا.

يخيّم الصّمت حولي مرّة أخرى، وينفضّ الجمع من حولي خائبين ممتعضين، وأسمع صوت زوجتي تندب حظّها:

ــ غشّوك مرّة أخرى؟؟ ألا تتعلّم أبدا. أهذه دلاّعة تشتريها؟ لو كنت مكانك لما استغفلني أحد.
أفكّر في كلامها قليلا، نعم ربّما لو كانت مكاني فعلا لما استغفلها ذلك السّافل، فهم لا يستغفلون النّساء بل يتودّدون إليهنّ. لكنّني أزداد حقدا وإصرارا، لن أفرّط في عرضي من أجل دلاّعة، حتّى ولو كانت ألذّ دلاّعة في العالم، وسأظلّ أشتري الدّلاّع وأقذفه إلى المزبلة بشرف.
أسألها في النّهاية وأنا أنكس رأسي خجلا:
ــ ماذا نفعل الآن؟
تجيبني وهي تمسح الطّاولة:
ــ لا تضعها في حاوية البلديّة، ضعها على الرّصيف إلى جانبها، سوف تمرّ عليها الأغنام والماعز، وتغنم أجرا كبيرا بإذن الله.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock