مقالات

في الذكرى الثانية لإعفاء القضاة : سنتان من المرارة والعذاب

عبد السلام الككلي

تنظم مجموعة من جمعيات ومنظمات المجتمع المدني اليوم 1 جوان 2024 ندوة بعنوان «سنتان بعد الإعفاء: أين نحن من القضاء المستقل؟».

جمعية القضاة التونسيين
القضاة

وتهدف هذه الندوة إلى مناقشة حالة القضاء في تونس بعد مرور عامين على إعفاء 57 قاضٍيا من مناصبهم. وستكون «هذه المناسبة فرصة لتقديم التطورات الأخيرة في هذا المجال، بالإضافة إلى مناقشة التحديات المستمرة التي تواجه القضاء المستقل» بحسب نص الدعوة الصادرة عن الجمعيات المنظمة للتظاهرة.

إذن عامان مرا على تلك الليلة المشهودة. سنتان من العذاب في ثقل المرارة والشعور بالظلم مرا على مجموعة من القضاة عزلهم الرئيس بإجراءات سريعة كما تستمر موجة المضايقات والملاحقات القضائية والحرمان من الحقوق ضد القضاة.

بعد مرور عامين، لا يزال القضاة الجالسون وقضاة التحقيق ووكلاء النيابة الذين عزلوا يعانون من الأضرار التي لحقت بهم على المستويين المهني والاقتصادي، إضافة إلى تلطيخ السمعة الشخصية الناجم عن هذا القرار الذي تركهم دون أي مصدر دخل أو تغطية صحية بحسب البلاغ الأخير الصادر عن منظمة العفو الدولية يوم أمس 31 ماي 2024

ليلة مشهودة

من من القضاة ومن غيرهم ممن يهتمون بالشأن القضائي والحقوقي والسياسي بإمكانه أن ينسى وقائع تلك الليلة المشهودة ؟ ليلتها تحدث رئيس الجمهورية في مجلس وزراء انعقد للغرض وكان حديثه متبوعا في تلك اللية نفسها بصدور الأمـر الرئاسي عدد 516 لسنة 2022 مؤرخ في 1 جوان 2022، مع التنصيص على النفاذ الفوري، يتعلـق بإعفاء قضاة، وتضمنت قائمة القضاة المعفيين بمقتضى هذا الأمر 57 قاضيا.

وجاء هذا الأمر متزامنا في نفس اللية مع صدور المرسوم عدد 35 لسنة 2022 المؤرخ في 1 جوان 2022، والمتعلّق بإتمام المرسوم عدد 11 لسنة 2022 المؤرخ في 12 فيفري 2022 المتعلق بإحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، والذي أضيفت إلى فصله الـ 20، الأحكام التالية: «لرئيس الجمهورية، في صورة التأكد أو المساس بالأمن العام أو بالمصلحة العليا للبلاد، وبناء على تقرير معلّل من الجهات المخولة، إصدار أمر رئاسي يقضي بإعفاء كل قاض تعلّق به ما من شأنه أن يمس من سمعة القضاء أو استقلاليته أو حسن سيره».

جاءت هذه «المجزرة» كما تسميها جمعية القضاة بعد أن اعد لها رئيس الجمهورية لمدة أشهر بخطاب دأب عليه ولا يزال حول التطهير وحول تقسيم القضاة إلى شرفاء وآخرين يجب أن يكونوا محل محاسبة.. وهو الاستقطاب الذي يحكم كل خطب الرئيس والذي يقسم البلاد جميعها إلى وطنيين صادقين وخونة، إلى مدافعين عن مصالح الشعب ومن نكلوا به. فتلك من طبائع الخطاب الشعبوي يلقي إلى الجموع فاكهة الشعبويين جاهزة للاستهلاك وخاصّة من تلك الفئات غير المؤهّلة بحكم فقر زادها المعرفي لفهم طبيعته والوقوف عند ولوعه بالثنائية. فالسلطة غير منشغلة بفهم الواقع والبحث عن حلول للمشاكل المتراكمة والمعقدة التي تعيشها البلاد. إذ دأبت على ممارسة هذا النوع من الخطاب والذي يجد أفضل تعبير له من خلال التخويف من المختلفين الذين عادة ما يشار اليهم في خطاب الرئيس بضمير الجمع الغائب «هم» دون أن يحيل الضمير على شخص أو أشخاص محددين بل إلى كتلة غامضة مبهمة يمكن أن تحشر فيها من تشاء إذ المقصود ليس تحديد المستهدف من الخطاب بقدر ما يهدف إلى خلق حالة من الخوف من كل من يختلفون مع الحكم.

القضاة المعفيون بين سلطة القانون و «قانون» السلطة

عقب «المجزرة» طعن القضاة في قرارات الإعفاء التي قبلت من المحكمة الإدارية بالرغم من أنها كانت بحسب المرسوم عدد 35 غير قابلة للطعن ولعل المحكمة قبلت النظر في الطعون بعد إعطاء قيس سعيد نفسه الإذن بذلك في تصريح بمناسبة توديع الحجاج في مطار تونس قرطاج سنة 2022 اعتبر فيه أن قرارات الإعفاء قابلة للطعن الإداري. وأصدرت المحكمة الإدارية قرارها في 10 أوت 2022. فأذنت بتوقيف تنفيذ 49 من أوامر الإعفاء الفردية.

مزيد التنكيل بالقضاة المعزولين

لم تكتف السلطة بإعفاء 57 قاضيا بجرة قلم وامتناعها عن تنفيذ قرارات المحكمة في سابقة خطيرة لم تعرفها البلاد في تاريخها إذ أن السلطة كانت استجابت سابقا إلى كل قرارات المحكمة الإدارية الصادرة في حق القضاة الذين وقع إعفاؤهم أيام وزارة نور الدين البحيري وعاد اغلبهم الى القضاء فعلا. لم تكتف السلطة الحالية بإعفاء القضاة بل حركت ضدهم الملاحقة الجنائية بموجب أحكام مرسوم العزل نفسه الذي ينص على انه لا يجوز للقضاة الطعن في إعفائهم إلا بعد أن تصدر المحاكم حكمًا باتا في قضاياهم الجنائية. ويؤدي تحريك الدعاوى الجنائية تلقائيًا ضد القضاة على هذا الأساس ودون المرور بالنيابة العامة إلى خلط بين ما هو إداري تأديبي وما هو جنائي. وبذلك، يخرج المرسوم تعسفيًا عن الإجراءات الجزائية وينتهك مبدأ المساواة أمام القانون وفي الحصول على حمايته.

كذلك، لا يمتثل المرسوم لمبدأ الشرعية، وهو مبدأ عام أساسي للقانون والقانون الدولي لحقوق الإنسان كما بينته كثير من المنظمات الحقوقية. ويرجع ذلك «إلى أن الأسس المُرتَكَز عليها لإخضاع قاضٍ للملاحقة الجنائية يتم تحديدها بعبارات عامة غامضة، مما يجعل من المستحيل على القضاة تمييز السلوك الذي قد يُصنّف كجريمة جنائية ويسمح للسلطة التنفيذية باتخاذ إجراءات تعسفية».

وفعلا وتنفيذا لمقتضيات المرسوم شرعت السلطة في ملاحقة كثير من القضاة المعفيين بتهم لها صلة بالإرهاب وبالفساد المالي أو الأخلاقي ومنهم رئيس المجلس الأعلى للقضاء المنتخب يوسف بوزاخر. وفي أخر حلقة من حلقات هذا المسلسل الرهيب مثل 13 من القضاة المعفيين يوم 30 ماي 2023 أمام المجلس الأعلى للقضاء المؤقت لرفع الحصانة عنهم استعداد لمثولهم أمام حاكم التحقيق إذ انهم امتنعوا سابقا عن الإجابة عن أسئلة المحقق تشبثا منهم بالحصانة على اعتبار انهم عادوا الى مباشرة القضاء اثر أحكام المحكمة الإدارية وهي أحكام باتة غير قابلة للطعن.

لا هو قاض ولا غير قاض: في المنزلة التي لا وصف لها

وبقطع النظر عن هذه الوضعية السريالية التي يعيشها هؤلاء القضاة، فهم قضاة مباشرون بحكم القانون وهم معزولون بقرار من السلطة فلا احد يدري ما الذي ينتظرهم إذ انه من الواضح أن الحكم ليس أمامه غير الهروب إلى الأمام ومزيد ملاحقة هؤلاء القضاة وإذلالهم وربما أكثر من ذلك إذ أنه لم يعد يملك في هذا الوضع الكارثي الذي يعيشه القضاء بحسب توصيف رئيس الاتحاد الدولي للقضاة إبان زيارته الأخيرة في ماي 2023 الى تونس بمناسبة ندوة دولية التأمت حول استقلال القضاء وتعيشه تونس سياسيا واقتصاديا وفي ظل إحكام قبضته على مصير البلاد ومصادرته لكل نفس حر وفي ظل تحريك الآلة القضائية ضد المعارضين السياسيين وضد الصحافيين المستقلين والمحامين وحتى ضد عامة الناس من المدونين ومن الشباب غير مزيد التخويف والترهيب إرضاء لهذه العواطف من الانتقام والشماتة والحقد التي زرعها النظام في نفوس كثير من التونسيين وغذاها باستمرار ولا يزال.

غير أن ما يبعث على الأمل هو أن القضية ظلت حية ولعلها ستظل كذلك الى أن يجد الحق سبيله في هذه العتمة إذ ما فتئت الجمعيات التونسية ذات الصلة بالمسالة القضائية كجمعية القضاة والمنظمات القضائية الدولية وعلى راسها الاتحاد الدولي للقضاة والمنظمات الحقوقية مثل أمنستي وهيومن رايتس واتش واتحاد القانونيين الدوليين وغيرها كثير تطالب كلها بوضع حد لهذه المأساة التي يعيشها مجموعة من القضاة كان كل جرمهم أنهم رفضوا تنفيذ التعليمات بحسب ما صرحوا به هم انفسهم في مناخ يعود بنا الى زمن خلنا أن البلاد تركته وراءها منذ الثورة زمن القضاء المدجن والقضاة مجرد موظفين في خدمة النظام والآلة القاسية التي تتسلط على كل نفس حر.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock