تدوينات تونسية

على ذكر الإعلام

-اعذروا أساي- الأمر محيّر، فعلا

نور الدين الغيلوفي

بلاد مستقلّة قبل أكثر من ثلاثة أرباع القرن، ولها قبل الاستقلال نخبة محترَمة، لا تكاد تجد فيها إعلاميًّا واحدا تقرأ له نصّا محترَما.. أرض جدباء.. إلّا من بعض الاستثناءات نجت بنفسها وهربت بعقولها وأقلامها.. وتلك استثناءات تؤكّد القاعدة.

في سنوات الثورة الأولى كان بعض طلبة معهد الصحافة يتابعون حسابي ويقرؤون ما أحاول.. وأنا لا صلة لي بالإعلام من قريب ولا من بعيد. أذكر أنّ بعض هؤلاء عهد إليّ ببحث ختم دروسه أقرؤه له وأصحّحه، فوالله، لقد وجدت كتابة لم أكن أجيزها لتلاميذ المعهد لمّا كنتُ بينهم. ضحالة لا تصدَّق لخرّيج جامعة. وقد فهمت من بحث ذلك الطالب معنى أن يتخرّج المرء من معهد الصحافة وعلوم الأخبار في تونس.. حطام في حطام في حطام، لذلك ترى أكبر همّ للواحد من هؤلاء أن يقعد على كرسيّ في منبر تلفزيونيّ توجّهه ميولاتُ باعثه وأهواؤُه يعمل له “كرونيكور” يملي عليه ما يقول، وينقده ثمنًا على ترديد ما يريد.

ومن أبرز وجوه الإعلام في هذا البلد الطيّب فتى كان أقصى همّه، في الزمن النوفمبريّ، أن يدعوَ إلى منبره شخصية من قبيل قاسم كافي أو فاطمة بو ساحة، رحمهما الله، ليعابثها ويسألها باستعمال عبارات مرّ بها في كتاب أو سمعها من أحد، كأن يسأل بوساحة عن الابستيمولوجيا ليضحك عليها ويُضحك المشاهدين في سماجة بلا نظير، ويعود في آخر الليل إلى وكره مُجهَدا من كثرة العمل يحصي جراية لا يطمع بها مهندس درس بالجامعة خمس سنين.

قَبِيلُ هذا الإعلاميّ جادت عليه مقادير الثورة بشخصيات سياسية وفكرية محترَمة، استبدلهم بضيوفه القدامى وأجلسهم في مجالسهم ليصبّ عليهم سخافته نفسها ويخلطها بإسفافه المعتاد.. وبدل أن يتحاور المسؤولون بين يديه ليستفيد الناس وتتحقّق رسالة الإعلام، لم يكن لهذا الفاقد من برامجه مطلبٌ أكثر من الإضحاك السخيف. ومن كثرة الضحك صار وجهه عبارة عن “سمايل” لضحكة سمجة.

هذه عيّنة لقطاع موبوء يأكل منتسبوه الخبز من جهلهم ونشره. ومن عجبٍ أنّهم جعلوا لهم نقابة يكوّنها أعضاء اكتب اسم أحدهم على غوغل، ستجده، ولكن لن تجد له مقالا محترما تخرج منه بفائدة.

حين أقرأ صحيفة القدس العربي أو صحيفة العربي الجديد أو أقرأ لإعلاميين في مواقع شتّى أحجّ إليها في صباحاتي، أستفيد وأتعلّم وأستعين على الفهم في مقام تلميذ.. ولكنّني لا أكاد أرى لهؤلاء الصاخبين مقالا واحدا يُعتَدّ به أو تحليلا يتيمًا يعين على فهم.

وحتّى الذين يكتبون فنقرأ لهم، أغلبهم قدموا على الإعلام من خارجه بأقلام جاهزة أنطقوها فنطقت.

من مدّة أتابع أحمد منصور ووضّاح خنفر في بعض مواقع التواصل. لكلّ من الرجلين مشروع لا يتّسع له عمر بشر.

وضاح خنفر
وضاح خنفر

وضاح خنفر، مثلا، إعلامي فلسطيني من مواليد 1968، كان مديرا عاما لشبكة الجزيرة الإعلامية، ولمّا خرج منها لم يكتف باجترار الفلوس التي جمعها ليلتقط له الصور في المنتجعات، بل بعث له منتدى الشرق، وهو شبكة مستقلّة يكرّسها لتطوير استراتيجيات التنمية السياسية والعدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي لشعوب الشرق الأوسط. محاضرة له تتابعها على اليوتيوب تغنيك عن عشرات الكتب. متعة وفائدة.

هؤلاء هم الإعلاميون، أمّا ساكنة ترابنا أولئك فليسوا أكثر من أشباه صادفتهم تسمية “إعلامي” ليست أكثر من ملقة لغرف الطعام.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock