تدوينات تونسية

ماذا لو رحتني الماكينة وحيدا أعزلا في صمت ؟

كمال الشارني 

اليوم، كدت أبكي متذكرا العميد المحامي منصور الشفي رحمه الله، صباح ذات يوم في بداية التسعينات (كان يوما شتائيا)، وجدت نفسي محتميا به بردائه الأسود في رواق مساعدي وكيل الجمهورية في محكمة تونس بعد أن جمع لي أكثر من خمسين محام أغلبهم من كبار المهنة ونجومها آخرهم المحامي الرائع عبد الرحمان الهيلة رحمه الله، كان يسميني في بعض مرافعاته “مولانا صاحب السلطة الرابعة” أمام قاضي الدائرة السادسة جناحي في القاعة عدد 6 الرائع “سي عمر”، لأن أحد مساعدي وكيل الجمهورية (أصبحنا صديقين فيما بعد) قد أصدر فيّ تعليمات بالإحتجاز إلى حين عرضي عليه بعد الزوال وذهاب المحامين، نحو الإيقاف في السجن بسبب مقال صحفي كشفت فيه مظلمة تعرض لها مسؤول بمدرسة خاصة اتهمته تلميذة قاصر بأنه سبب حملها حماية لعشيقها العجوز السياسي المتنفذ وقتها.

العميد منصور الشفي
العميد منصور الشفي

في الأصل، كان ذلك الجهاز الجبار الذي اسمه “الحاكم” سيرحيني رحيا، إيقاف لأسابيع وربما حكم نافذ بالسجن والخطية ونهاية المهنة الصحفية والعودة إلى التشرد، أولا، لأني ولد مطروش وبري وأشبه الذئب، “صحفي يكتب جيدا وعنده القماش” على رأي صديقي الأستاذ إبراهيم الصغير الخليفي لكني قادم من سركونة بلا أهل نافذين ولا حيثية ولا علاقات ولا انتماء لحزب حاكم وليس بيني وبين الحياة البدائية والرعي سوى ثلاث ساعات باللواج، إنما أنقذتني العلاقات الإنسانية التي أقمتها مع أعوان الأمن وصغار الموظفين وأغلبهم مثلي.

موظف بسيط هو الذي همس لي بأسرار القضية الظالمة وأن الرجل أب لطفلين قضى في السجن عدة أسابيع في انتظار نتائج التحاليل الجينية التي كانت تطول فرميت نفسي في أثر القضية، وأعوان أمن بسطاء اعترضوني في مدرج محكمة تونس يطلبون مني الهرب لكي لا يطبقوا التعليمات بإيقافي في “جيول” المحكمة تحت الأرض، في ذهولي وخوفي، رأيت العميد منصور الشفي الذي جمعتني به عدة قضايا عرفني فيها بخبرته العميقة في معرفة الناس كان يناديني “ولد الشارني”، كان ينزع عنه رداءه الأسود حين حكيت له الحكاية فأعاد لبسه، كل محام داخل أو خارج يقول له “تعال معي” نحو مكتب مساعد وكيل الجمهورية.

إنه رغم قصر قامته، يملك سحرا وجاذبية وقدرة على الإقناع، الرواق الذي فيه مكتب مساعد وكيل الجمهورية أصبح أسودا بأردية المحامين وكثر اللغط والنقاش حتى اضطر مساعد وكيل الجمهورية إلى الخروج إليهم “سيدي العميد، لماذا كل هذا؟”، قال العميد: “نريد أن نقدم نيابات عن الصحفي كمال الشارني مع طلب الإفراج المؤقت”، وقتها قال مرتبكا: “لم آذن بإيقافه أصلا، ليست هناك أية قضية ضده”، بعد أن أصبحنا صديقين، كشف لي أنه لم يغفر لي تلك اللحظة أبدا وقال إن رئيسه وكيل الجمهورية صرخ فيه في الهاتف لكي يفض المشكل وأن وزير العدل نفسه عبد الرحيم الزواري سأل عن تجمهر المحامين في رواق وكيل الجمهورية، قلت له: “ماذا لو رحتني الماكينة وحيدا أعزلا في صمت؟”.

احتفلت مع العميد في مقهى العايش وفي مكتبه قرابة مقر جريدة الشروق وما زلت مدينا له بالمواقف الإنسانية معي ومع المئات من غيري، كان رجلا شريفا ومحاميا مناضلا فذا، يستحق أن يكون له شارع جميل باسمه أو مؤسسة حقوقية تحيي القيم الإنسانية التي كان يدافع عنها، خير من شارع باسم شارل ديقول أو جون جوراس.

شعب بلا ذاكرة، بلا تقدير للمناضلين.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock