الطوفان والعار
أحمد الغيلوفي
للطوفان علاقة سريّة ومُتشعّبة بالعار، سنحاول ضبط معانيها ومستوياتها متوسّلين بخيط من الأسئلة:
مالذي يجعل مجموعة من البشر تقاتل داخل جحيم كالذي نراه طيلة اشهر ؟
مالذي يجعل مجموعة بشرية تلتفُّ حول مقاومتها وتتحمّل محرقة وإبادة ولا تستسلم لعدوها ؟
مالذي يجعل طلبة ميسورين في جامعة مرموقة في بلاد بعيدة يتضامنون مع ضحايا الإبادة في غزة بينما ينام الكائن العربي قرير العين على بعد كلومترات من المحرقة؟
الإجابة التي سنقترحها في هذه السطور هي التالية: انه الشعور بالعار لدى ذات تحترم نفسها فتشعر بالإهانة فتقوم. هناك علاقة بين القيام ضد الإهانة وفعل المقاومة.
العار في لسان العرب كل ما تلزم عنه سُبّة وشتيمة، وهو من فعل عَار الشيء أي أصابه بعُوّار أي عيب. يبدأ ابن منظور مادة “عور” بـ “العورُ” ويطيل الوقوف على العور والعوران. فالإنسان الأعور من بعينه عُوّار وهو ما يسيل دمعه ويجعله يخفي عينه خجلا. قالت الخنساء “قذى بعينك أم بالعين عُوّارُ”. عين بها عُوار هي عين الدموع والاختفاء. والعار هو ما يجعل المرء يحذر الظهور خوف الشتيمة. لنقل في كلمة: إن العار هو ما يضرب تقدير النفس لذاتها، ولو قلبنا القول لقلنا: إن من لا يشعر بالعار هو من لا يقدر ذاته.
إن الجيل الذي يصارع الآن داخل محرقة النار والدمار هو الجيل الذي بلغ لديه الشعور بالعار من الاستعمار مبلغا أورده الموت هربا من الإهانة التي يمثلها الاحتلال. هذا لا يكون لدى جيل بلغ به أيضا تقديره لنفسه مبلغا جعله يختار الموت الشريف على مجرد البقاء الذليل. في غزة يتصادم تقدير حاد للذات بالة قتل فتّاكة. تقدير الذات هو ما يجعل المرء “يقوم” في وجه القوة التي تهينه، يقوم أي يظهر ولا يتخفّى، يواجه ويرفض ويقاوم ولا يذرف الدموع. بذاته عُوّار ويريد أن يداويها. هو يعي بالعار ويريد غسله بدمائه، ويفضل الموت على بقائه في حالة العار. قد يقول قائل بان مفهوم “احترام الذات” أو “الاهتمام بالذات” هي فكرة مسيحية نجدها لدى ديكارت أو فوكو ولا نظير لها في الثقافة العربية، وهذا غير صحيح: ابن باجة في “تدبير المتوحد” وبعد أن يُقر بان الخوف من الموت “فعل بهيمي” فانه ينصح صاحب العنصر “الإنساني” من البشر باختيار الموت إن كان في البقاء مذلّة، ويصف من يقبل البقاء في هذه الحالة على انه “البهيمة خير منه”.
إن الشعور بالعار هو أيضا ما يدفع طلبة كولمبيا الي رفض التواطؤ مع الإبادة والقيام في وجه “السيستام” الذي تسيطر عليه الصهيونية وتوظفه لخدمتها. هذا الموقف يستند أيضا الى تقدير شديد للذات. حتى ترفض وتقاوم وتشعر بالإهانة عليك أولا أن تكون ذاتا. بلغة كانط: تقدير الذات هو شرط إمكان المقاومة والرفض. يُعرف ديكارت تقدير الذات تعريفا طريفا فيقول “هو اثر الكرم، أو عظمة النفس، يميز الإنسان الشريف”. واذا كان الكرم هو المنح والإعطاء وعدم الامتناع في إغاثة الآخر الذي يعيش خصاصة، فان “الآخر” الذي يناصر غزة هو “إنساني” ابن باجة الذي يورد نفسه الموت هربا من عار إبادة الآخر أمام عينيه. إن من يقولون “نشعر بالعجز إزاء الإبادة” ولا يقومون بشيء، هم عين بها عُوّار وتبكي، أما من قام ضد الإبادة فهو قد شعر بالعار إزاء موقف العجز فنهض رفضا للعار وتقديرا للذات.
في العار اذا مفارقة: فمن جهة هو إحساس سلبي يجب تفاديه والتخلص منه لما فيه من امتهان للذات، وهو احد منابع الحزن والمعاناة، ولكنه أيضا نوع حاد من الغضب يدفع الى المقاومة والتحرر. لا عصيان بدون شعور بالعار، ولا مقاومة بدون تقدير للذات، ولا تحرر بدون أن تكون ذاتا. وعلى الذين يرضون بالاستعمار والاستبداد والانقلابات، وان تُكتب لهم دساتيرا وهم نيام أن يُنزلوا انفسهم منازلها. أما المقاوم فهو قائم، أي منتصب القامة وغير منحن، وهو أيضا “قوّام على..” على غيره من لا يقدر على القيام والمواجهة. فالمقاومة في غزة “قوامة على أمة” عجزت عن المواجهة. هم قوّامون علينا بما انفقوا من دمائهم.
وعلينا أن نكف عن التقسيم الجندري: رجال/نساء، ذكور/إناث، ونرسخ التقسيم الإنساني: مقاوم/عاجز. إن نُكران الإبادة من طرف حكومات الغرب، وعدم الاكتراث لأعداد الضحايا يعكس تعالي أنطولوجي على الآخر/الضحية: نحن الإنسان/الذات، والأخر مجرد غيرية/حيوان. لذلك فان الجحيم المستعرة اليوم منذ سبعة اشهر هي نزاع مرير من اجل الاعتراف، أي “لا تملك أي تعالي أنطولوجي عليّ، ولنخض صراعا من اجل تبادل الاعتراف”.
وهناك مشكل عويص، وهذا ما يفسر مرارة الصراع ودوامه وإصرار الطرفين: انه صراع صفري، إما منتصر سيكون هو الإنسان، أو مهزوم سيكون “غير إنساني”. إن ثبوت فعل الإبادة، وإدانة العدل الدولية وانتفاضة الطلبة وانقلاب الراي العام العالمي هو انحدار الغرب الى “اللاإنساني”، وهذا مكمن الحرج والرعب. لقد قال هوسرل يوما “الإنسانية الأوروبية”. إنها صفة تُفتكُّ وتتحول عبر الصراع. وان الإنساني اليوم هو من يقاوم الصهاينة وحلفائهم، ولا يتعلق الأمر بإثنية بعينها أو بثقافة بعينها. قُم، قاوم، كن قواما، فانت ذات وجدير بالاحترام. وعلى من يعطون ظهورهم للاستعمار والانقلابات والاستبداد أن يحتكموا لابن باجة، سينزلهم منازلهم.