تدوينات تونسية

الذهول العربي

ليلى حاج عمر 

يبدو أنّ الشعوب العربية تعيش منذ سقوط ثوراتها أو اختطافها والانحراف بها حالة ذهول عن الواقع وانحباس وعدم ثقة في القدرة على الفعل. فما عقب هذه الثورات من انقلابات (مصر ثمّ تونس تحديدا) ومن تشويه وانحراف (سوريا وليبيا) ومن سرديّات واهمة (الثورات العبريّة) ومن تفتيت وحروب بعضها كلاميّة وبعضها دمويّة ومن حرب إعلاميّة شرسة فتكت بالعقل وأنتجت الغباء الجماعيّ، كلّ هذا جعل مفاهيم الثورة والنّضال والمقاومة والاحتجاج والتعبير عن الرّأي والحريّة مفاهيم لايقينيّة مرتاب في جدواها ومتظنّن في فاعليّتها. هكذا لم تعد لهذه الشّعوب ابنة الانقلابات الدمويّة وغير الدمويّة وابنة “العالم الجديد الشّجاع” بلغة ألدوس هكسلي، لم تعد لها ثوابت تتّكئ عليها بل أضحت تتّكئ على الخواء فلا تكفّ عن الانزلاق نحو الحضيض.

الذهول العربي
الذهول العربي

الحركات الطلّابيّة والنقابيّة والثقافيّة لا تنفصل عن هذا فهي بدورها قد صارت مقطوعة عن المفاهيم الكبرى بدرجات متفاوتة ومسّتها السّيولة التي جعلت كلّ شيء رجراجا ومائعا وزئبقيّا وأخذ الحديث عن الحريّة مثلا بعدا فرديّا تسويقيّا مخيفا مقابل تجاهل حريّة الشّعوب وحقّها في المصير. هذا الانقطاع الذي عمّقه الاستبداد العائد بعد الفشل في بناء الديمقراطيّات أنتج حالة انحباس أدّت إلى ظواهر عقيمة كالسلبيّة العمياء وصولا إلى الدروشة والتسطيح والاستعراض بلا حياء للخواء.

الاعتقالات وتهديد الحريات والتغييب القسري وغيرها من آليات القمع دفعت إلى مزيد اهتراء مفاهيم النضال من اجل الحرية. اهتراء فكرة النضال بتحويل المناضلين إلى خونة وعملاء ويأتي 7 أكتوبر حجرا حرّك بحيرة العالم الراكدة حول القضيّة الفلسطينيّة بعد أن توهّمت القوى المقرّرة للنظام العالمي بأنّها قد طوتها، وحرّر تبعا لذلك مفاهيم المقاومة والنّضال والاحتجاج من قمقمها فاهتزّ العالم اهتزاز يذكّرنا بما حدث خلال الحرب الفيتناميّة الأمريكية. إنّه التحرّر الذي يعيد لشعوب العالم روحها المختطفة ويذكّرها بأنّ وجودها مرتهن للحريّة أوّلا وللحريّة آخرا، وأنّ المقاومة والخروج إلى الشّوارع للاحتجاج هو الفعل الوحيد الممكن لمواجهة فعل التوحش الذي لن ينجو منه أحد.

اهتزّ العالم وظلّ الذهول العربي يتمدد، كمن يعجز عن مغادرة قاع بئر. لا شكّ أنّ حبال مغادرة القاع قد قُطعت داخل مجتمعات تحوّلت إلى “معابد للاستهلاك” لا روح ولا حسّ ولا إدراك فيها، لا معايير واضحة ولا مرجعيّات، مستوطنات بشريّة عربيّة تتحرّك فيها الموائع بسهولة فادحة ويغرق الناس في سيولة الواقع.

ولا شكّ أنّ الخروج من حالة الذهول يحتاج ارتفاعا ذاتيّا يحدث بعد مراكمة طويلة وبعد تحرّر نفسيّ وفكريّ، تحرّر قضّينا العمر في طلبه، وكلّما ظنّنا أنّنا أدركناه، اصطدمنا بالواقع ووقائعه الغريبة.

في تعريف الذهول علميّا أنّه “عدم وجود حالة الإدراك ولا يستجيب المريض في هذه الحالة لأيّ من المنبّهات إلّا بعض المنبّهات الأساسيّة كالألم.” الألم ؟

وهل هناك ألم أشدّ ممّا نرى يمكن أن يخرجنا من ذهولنا شبه الأبديّ ؟

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock