مقالات

المُسْتَلْبِس أو كتابة الاهتياج

سامي براهم 

لست في وارد أنّ أعلّق على معارك الرّقيب مطلق الصّلاحيّات في حجب المنشورات والأفكار وتعقّب أصحابها وتحبير التقارير بهم وبمنشوراتهم، فلكلّ معاركه التي تعبّر عن خلفيّاته وقناعاته وانتماءاته، ولا مصادرة على حقّ أيّ كان في خوض ما يعتبره معركة شرف مهما كان تقييمنا لها، لكن عندما يتعلّق الأمر بموظّف عموميّ مكلّف رسميّا بإدارة مهامّ تتعلّق بالشّأن العامّ يصبح تقييم أدائه مسألة حيويّة مطلوبة خاصّة وأنّه قد وفّر لنا مادّة مهمّة كاشفة لشخصيّته وطبيعة مهمّته من خلال كتابه “مذكّرات رقيب”.

الرّقيب
الرّقيب

لا يعنينا الشّخص في حدّ ذاته رغم ما يكيله لشخصنا من تهم وافتراءات كلّما تعرّضنا لأحد مقالاته بالنّقد، ولكن يعنينا الموظّف الرّقيب صاحب اليد الطّولى في الإمضاء على قرارات ضبط قائمة الكتب الممنوعة وسلسلة المنشورات الجامعيّة المصادرة وغلق المكتبات التي يرى فيها خطرا على “الأمن الفكري” للبلد ومنع النّدوات الجامعيّة وملاحقة الجامعيين.

الرّقيب
الرّقيب

لم نختر عبارة المستلبس المهتاج من باب الوصم والتّعريض بشخص الرّقيب، بل وسمناه بما وسم به نفسه، حيث كان الرّقيب تلميذا لألدّ الشخصيّات تعرّضا لقصفه طيلة عقود، وعندما قرّر أن يلتقي أستاذه خارج القسم للحصول على كتابه لاطفه أستاذه قائلا “معشرك لطيف عكس كتاباتك الحادّة” فأجابه تلميذه باللّهجة الدّارجة “كي نكتب عليكم نستلبس”، وترجم في الهامش العبارة الدّارجة بالعربيّة الفصحى ربّما ليفهمها القارئ العربيّ “عندما أكتب عنكم أشعر بالاهتياج”.

هو اعتراف يكشف الحالة النفسيّة والذهنيّة التي عليها الرّقيب عندما كان يكتب عن ظاهرة سياسيّة وعن منظوريها وكلّ ما يمتّ ومن يمتّ لهم بصلة. هي حالة “استلباس” بكلّ ما تعنيه العبارة في مدلولها الدّارج من تلبّس بالجان، وحالة اهتياج بكلّ ما تحيل عليه في قاموس الأمراض النفسيّة.

ربّما استعملها الرّقيب من باب المجاز أو التزيّد والافتخار وتأكيد علاقة المفاصلة بينه وبين أعدائه اللّدودين، وربّما أراد التبرّؤ من لقائه بأستاذه الذي يعدّه شيخَ التطرّف والإرهاب بهذه العبارة رغم لطف أستاذه معه، لكن ما كنّا لنقتبس هذه العبارة لوسمه أو وصفه لو لم نجد في متن الكتاب ما يعبّر بدقّة متناهية عن حالة الاستلباس والاهتياج التي عليها الرّقيب على امتداد فصول الكتاب وما عجّت به من شهادات وروايات وأسماء وتقارير سريّة وأحكام وانطباعات ووقائع تحتاج محلّلا نفسيّا أكثر من حاجتها إلى ناقد أفكار.

المستلبس أو المهتاج شخص فاقد للضّبط والتّمييز، هو كحاطب الليل لا يدري أين تقع فأسه التي لا تميّز بين الجذور والجذوع والأغصان والثّمار ، بل ربّما أصابت بعض أعضاء جسده وهي تهوي على هدفها. حربه على ممثّلي التطرّف والإرهاب المفترضين التي تحوّلت من واقع قابل للتشخيص إلى متخيّل أو تمثّل وصورة ذهنيّة جعلته يلاحق منشورات شخصيّات مرموقة في البلد لها موقعها في العلم والمعرفة في مؤسّسات التعليم الثّانوي والعالي والبيداغوجي وفي المؤسّسات الدّينيّة في خلط عجيب بين المرجعيّات والمواقع.

قائمة طويلة تجمع حركة النّهضة وقياداتها، ومجموعة اليسار الإسلامي ومثقفيها بأساتذة جامعيين من كليات الآداب والزيتونة وغيرها وإعلاميين ومسؤولين في الدّولة بينهم وزراء مباشرون بعضهم رؤساؤه في العمل، والجامع بين كلّ هؤلاء في أشخاصهم والخيط النّاظم في منشوراتهم وأفكارهم هو تواطؤهم بزعمه بشكل مباشر أو غير مباشر في دعم التطرّف والإرهاب والتستّر عليه والدّعاية له والإشادة به وشبهة صداقتهم مع قيادات من التيّار الإسلامي.

الرّقيب
الرّقيب

من بين هؤلاء الأساتذة محمّد الطّالبي، وعبد المجيد الشّرفي، والمنصف بن عبد الجليل، وعبد الباقي الهرماسي، وأمال القرامي، وجلّول الجريبي، وكمال عمران، وعبد الرزّاق الحمّامي، وعلي العريبي، وصلاح الدّين المستاوي، ومفتي البلد ومسؤولي وزارة الشّؤون الدّينيّة، فضلا عن مفكّرين من خارج البلد كحسن حنفي، وفتحي بن عثمان، وفهمي هويدي، وعصمت سيف الدّولة، ومالك بن نبيّ الذي اعتبره إرهابيّا، وغيرهم … وطبعا دون نسيان كتّاب التيّار الإسلامي في تونس وخارجها وأصحاب تجربة اليسار الإسلامي في تونس ورمزهم الأوّل الأستاذ احميدة النيفر الذي كال له من التّهم النصيب الأوفر. ولم يسلم الإعلاميان القديران زياد كريشان ولطفي الحجّي من تهمة السير في ركاب التطرّف والمتطرّفين وخدمة أجندة حركة النّهضة !!!

معيار المنع والمصادرة عجيب فقد يتعلّق بفقرة أو جملة في كتاب مدرسي أو بحث جامعيّ يستشفّ منها مساندة ضمنيّة للتيّار الإسلامي وإشهار لأفكاره، أو إدراج شاهد من كتابٍ أحد أعلامه ولو على سبيل النّقد والنّقض، أو تناول قضيّة من القضايا الخلافيّة في الفكر الإسلامي قد تثير جدلا يستفيد منه الإسلاميّون مثل كتاب الردّة للأستاذة آمال القرامّي الذي منعه طيلة بقائه في مهمّته وصادره حتّى بعد تغيير عنوانه.

حالة من الهوس والبارانويا وصلت حدّ كتابة تقرير أمنيّ عجيب عن فرقة المعتزلة وبيان خطورة تدريس عقائدها وافكارها على أمن البلد !!!.

ومن المواقف المثيرة خلافُه مع رؤسائه حول مصادرة بعض الكتب، حيث أثار وزير الثقافة صالح البكاري معه موضوع منع كتاب عيال الله للأستاذ محمّد الطّالبي إذ اعتبره الوزير “وجهة نظر في الإسلام” بينما كان ردّ الرّقيب أنّه “دفاع عن الإخوانجيّة” !

وعلى نفس الشّاكلة كان ردّه على وزير الدّاخليّة علي الشّاوش لمّا راجعه في أمر منع كتاب لبنات للأستاذ عبد المجيد الشّرفي وأطروحة دكتوراه للأستاذ منصف بن عبد الجليل عن الفرقة الهامشيّة وكتب صادرة عن المركز القومي البيداغوجي.

من أين يستمدّ الرّقيب سلطة حصريّة الانفراد بالمنع وتحديد معاييره؟

ورد ص 234 من الكتاب أنّ الرّقيب يبدي رأيه في هذا المصنّف أو ذاك “اعتمادا على ملاءمة ما ورد بالمصنّف للقيم والأهداف الاستراتيجيّة التي حدّدتها القيادة السياسيّة مستنيرا في ذلك بخطب سيادة رئيس الجمهوريّة ووثائق التجمّع” !!

هذه مرجعيّة المنع والمصادرة ومصدر السّلطة والإلهام الذين يجعلان من الرّقيب موظفا غير عاديّ “طبيعة مهمّته لا علاقة لها بالسلّم الإداريّ ولا بالرّتب الوظيفيّة أو درجاتها لأنّها تتناول الأفكار والآراء وتخضع للتّقييم الذّاتي” ومن مهامّها “تنبيه القيادة السياسيّة ولفت نظرها إلى الأفكار التي يمكن أن تمثّل خطورة في المستقبل واقتراح السّبل والمناهج لمواجهتها وهي جنينيّة قبل أن يصلب عودها ويستفحل أمرها” انتهى الشّاهد.

وعلى هذا النّهج سار في كتابة التّقارير التي كان يرسلها لرئاسة الدّولة للتحذير من خطر الإسلاميين وسبل مواجهتهم. ومن عجيب مقترحاته على القيادة التي أوردها في كتابه التوقّف عن بناء المساجد التي يمكن استغلالها من قبل المتطرّفين، واعتباره كما قال أنّ “الحكمة والحزم في مقاومة حركة النّهضة تقتضيان أن يُستَبعد كلّ من له نفس إخوانيّ ، وأقرباؤهم إلى الدّرجة الثّالثة من مجالات الأمن والجيش والإعلام والتّعليم” ويبدو أنّ السّلطة استجابت لهذا المقترح الذي لم تمارسه إلّا الدّول الفاشيّة.

ويصرّح الرّقيب في أواخر كتابه أنّ إصراره على مواقفه التي تقودها حالة الاستلباس والاهتياج “جعل الأعداء والخصوم يتكاثرون داخل القصر الرّئاسيّ وفي التجمّع وفي أحزاب المعارضة وفي منّوبة ورابطة حقوق الإنسان بحيث أصبحت كإبليس جمّال أوزار الخطّائين” ص 252 …

وانتهى الأمر إلى إنهاء مهامّه صلب وزارة الدّاخليّة في سياق سرديّة رواها عن برنامج للتّقارب بين السّلطة وحركة النّهضة بما جعل كلّ جهده في التّحريش والتحريض يذهب هباء منثورا ولم يعد هناك حاجة لوجوده على رأس مهمّة الرّقابة.

وفي آخر صفحة من كتابه يعلّق على مغادرته الوزارة الأولى بعد الثّورة إثر إنهاء إلحاقه بها بكلّ افتخار “لم يترك النّهضة تهنأ بالحكم” من خلال كتاباته.

تلك رحلة الرّقيب في مهمّته صلب مؤسّسة من مؤسّسات الدّولة السياديّة طيلة سنوات وهو ينفّس عن مكبوتات الاستلباس والاهتياج السياسي يقوده حقد مقدّس ورغبة ساديّة في استئصال الخصوم مستفيدا من الصّلاحيات الواسعة التي مكنّته منها “القيادة” على رأس الدّولة لتصفية معارضيها فكريّا ورمزيّا جسديّا.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock