إيهام بالرّدّ
عبد اللطيف علوي
الرد الإيراني، على خلاف ما قد يتبادر إلى الذّهن فور قراءة العنوان، فالمعنى المقصود ليس سلبيّا بإطلاق كما سيرد تحليل ذلك لاحقا، وإنّما جزء كبير من لعبة السّياسة والدّعاية والتّوازنات يقوم على الإيهام بفعل الشّيء، عندما نكون ملزمين بأن نفعله لكنّنا واقعيّا وموضوعيّا لا نستطيع أن نفعله، أو أنّ تكلفة الرّدّ ستكون أكبر بكثير ممّا لو سكتنا عن الرّدّ. إيهام العدوّ، وإيهام الأنصار. وهذا في كلّ الأحوال أفضل من الاستسلام والإقرار بالعجز عن الرّدّ، فذلك يعني التّوقيع على بروتوكول الهزيمة.
إسرائيل عندما ضربت السفارة الإيرانية في دمشق لم تخبر أحدا، ضربت وقتلت 16 إيرانيا بينهم قائد كبير في فيلق القدس، وكانت الغاية هي استدراج إيران للرّد من لبنان، ردّا في مستوى الجريمة، يكسر قواعد الاشتباك القديمة، ويعطي إسرائيل المسوّغ للمرور إلى المرحلة الثانية من حرب الإبادة، فبعد غزة يجب أن يكون جنوب لبنان والضاحية الجنوبية، هذه حتمية وجودية بالنسبة لإسرائيل وقد قلت ذلك منذ الأسبوع الأوّل، بقطع النظر عن تقييمنا لنتائج حربها على غزة، فالأهمّ بالنسبة إليها الآن هو تسويتها بالأرض، ليس استرجاع الأسرى ولا حتّى نزع سلاح المقاومة، وإذا لم تفعل ذلك أيضا مع لبنان الجنوبي، فستبقى تحت رحمة الزناد وكأنّك يا بوزيد ما غزيت!
إيران استوعبت “الحركة” بمفهوم الشّطرنج، وأدركت أنّ الرّدّ يجب أن يأتي من إيران لا من جنوب لبنان، أوّلا لحجم الجريمة، ومساسها مباشرة بسيادة إيران، وثانيا كي لا تمنحها ذلك المسوّغ لتوسيع الحرب إلى جنوب لبنان.
لكن هناك مشكلة!
أيّ ردّ حقيقي في مستوى حجم الجريمة والدماء الّتي سالت، يفترض الدّم بالدّم، والوجع بالوجع، وهذا يفتح الباب على مغامرة لا أحد يتنبّأ بنتائجها، في ظلّ ظروف دوليّة وإقليميّة الجميع يعرف أنّها لن ترحم إيران، مثلما لم ترحم العراق سابقا!
وإذا لم تردّ سقطت هيبتها ومصداقيّتها أمام أنصارها، وسقطت استراتيجيّتها في نظر أعدائها القائمة على توازن الرّعب أو على الأقلّ “الإيهام” بوجود توازن للرّعب! (والوهم راهو محرّك حقيقيّ لجزء كبير من العلاقات بين الأفراد وكذلك بين الدّول).
ماذا بقي لها إذن؟!
بقي لها ما حدث البارحة!
ردّ محسوب ومتّفق عليه ضمنيّا، وإلاّ فما معنى أن تتحدّث وكالات الأنباء والسفارات عن هذا الرّدّ قبل أسبوع من حدوثه، وتعطي التوقيت (في نهاية الأسبوع) وتعطي حتّى الأسلحة الّتي ستستعمل فيه ونوعها وتقريبا عددها، وهو ما حدث تقريبا بحذافيره (مسيّرات يتجاوز عددها المائة تنطلق من إيران وصواريخ بالعشرات إلخ إلخ…).
لم يبق لهم تقريبا سوى أن يعلنوا مسبقا قبل أسبوع عن عدد الضحايا وحجم الأضرار، وهذا يعني ببساطة أنّ إيران قصدت أن تسرّب كلّ ذلك، كي لا تكون الضّربة مباغتة، ولتجنّب احتمال وقوع عدد كبير من القتلى أو إحداث صدمة تجرّ العالم المتصهين تقريبا بالكامل إلى استغلال الفرصة ليفرض عليها قواعد جديدة ومعادلة جديدة في المنطقة مازالت لم تنته تماما من الاستعداد لها!
هي من ناحية تستبق وضع القواعد الجديدة بالإعلان أنّها قادرة على المبادرة، واليد الّتي تمتدّ إليك لتصفعك اليوم هي نفسها القادرة على أن تمتدّ إليك لتخنقك غدا…
وفي نفس الوقت، تعطي الجمهور المتعطّش لأيّ ضربة للكيان، المتعطّش حتّى لعضّة كلب تصيب الكيان، تعطيه جرعة أكبر من التّفاؤل والامتنان والثّقة بصلابة الحائط الذي يستند عليه…
لذلك أعتقد أنّه لم يكن ردّا، كان إيهاما بالرّدّ، وهو المنزلة الوسطى ما بين الرّدّ وعدم الرّدّ.