أفعال الغرب في تشاجوس تتكرّر في غزة
عبده فايد
دعني أحكي لك قصة مروّعة عن ‘‘إنسانية الغرب‘‘ ولماذا يقدّم الأمريكان والألمان السلاح لإسرائيل بيد، ثم يتحدثون عن فتات المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، تُلقى لهم بطرف إصبع آخر؟..من أين تنتهي القصّة؟.. من إحدى أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في العالم..لكن من أين تبدأ؟
من سنة 1965.. وقتها وقّعت الولايات المتحدة الأمريكية اتفاقًا سريًا مع بريطانيا.. الرئيس الأميركي ليندون جونسون كان يضع عينه على أرخبيل في المحيط الهندي من أجل إنشاء قاعدة عسكرية أميركية، تكون مفتاحًا استراتيجيًا للتدخل الأميركي السريع في إفريقيا والشرق الأوسط وشبه القارة الهندية وغرب آسيا..
هذا الأرخبيل كان يُطلق عليه ‘‘أرخبيل تشاجوس‘‘ ويتبع إداريًا لدولة موريشيوس التي كانت خاضعة للاحتلال البريطاني.. بريطانيا أعطت لموريشيوس استقلالها، لكن على شرط أن تقبل التخّلي عن تشاجوس مقابل 3 ملايين جنيه سترليني..ثم -في اتفاق سرّي- أجّرت أرض تشاجوس لأميركا لمدة 50 سنة قابلة للتمديد لعشرين سنة إضافية مقابل تزويد بريطانيا بغواصات بولاريس الأميركية بخصم 14 مليون $ من ثمن الغواصة..
لكن كانت العقبة كبيرة.. تشاجوس الخلابة يقطنها ألوف البشر، الذين سوف يعترضون على تدنيس أرضهم بالوجود العسكري الأميركي.. وما حدث كان مخيفًا.. ويجهله معظم العرب.. سنة 1968 بدأت واحدة من أكبر عمليات التهجير والقتل برعاية أميركية-بريطانية.. والقصة يحكيها الصحافي الاستقصائي الأسترالي ‘‘جون بيلجر‘‘ في كتابه ‘‘الحرية في المرة القادمة‘‘..
الأدميرال الأميركي جريثام والسير البريطاني جريتباتش أطلقوا أمرًا سريًا بـ ‘‘تطهير‘‘ أرخبيل تشاجوس.. طلبوا من السكان الرحيل بهدوء على متن سفن بريطانية، لكنهم رفضوا.. فبدأوا في ترويعهم..كانوا يعلمون أن سكان تشاجوس مرتبطين بكلابهم، يعتمدون عليها في الرعي والحراسة.. جمع الجنود البريطانيون كل كلاب الجزيرة.. وأشعلوا مواقد عملاقة، وقاموا بشوي الكلاب وهي حيّة أمام أعين أصحابها.. ومن اعترض من السكان.. قاموا بشويه معهم.
دبّ الذعر في نفوس الجميع.. استيقظوا في الصباحات التالية.. وإذ بالجنود الإنجليز يخرجونهم من منازلهم ويحرقونها بالكامل بكل ما فيها.. وتركوهم في عز العراء.. منعوا عنهم الطعام والشراب.. حملة تجويع كان لا بد أن يسبقها إعدام لكل الثروة الداجنة والحيوانية في الأرخبيل وقد كان.. مات 400 شخص من سكان تشاجوس جوعًا.. وفي النهاية بعد أن خارت قواهم.. اضطروا للاستجابة لشروط بريطانيا العظمى.
صعدوا على متن السفن البريطانية.. ومن كان منهم مريضًا ألقي في قاع المحيط الهندي.. ومن وصل لموريشيوس.. مُنع من الحصول على الجنسية، وبقى في الشوارع متشردًا بعد أن كان عزيزًا وسط قومه، حتى الحق في العمل صُودر منهم، فلم تجد فتيات تشاجوس حلًا سوى الانتحار حفاظًا على أنفسهن.. شعب كامل سُحق وشٌرد وهٌجّر وقتل.. حتى تحظى الولايات المتحدة بفرصة إقامة قاعدتها العملاقة ‘‘دييجو جارسيا‘‘ التي انطلقت منها الطائرات الأميركية لدّك أفغانستان والعراق عامي 2001 و 2003.
دارت هذه المأساة في صمت شديد في نهاية الستينات وبداية سبعينات القرن العشرين.. وعندما بدأت في التكشف للرأي العام.. عُقدت لجنة سرية من وزارتي الدفاع الأميركية والبريطانية لحل ‘‘أزمة العلاقات العامة‘‘ التي سبًبها تهجير وقتل سكان تشاجوس.. وكان الحل؟.. تقديم مساعدات إنسانية لبواقي التشاجوسيين الذين ألقتهم السفن البريطانية في موريشيوس، ونقل بعضهم لبريطانيا.. وأطلقت حملة غسيل سمعة تصوّر النواب البريطانيين وهم يلتقطون صورًا مع أطفال تشاجوس.. وجرى بيعها للرأي العام باعتبارها ‘‘مسئولية الغرب الأخلاقية‘‘ لنجدة سكان تشاجوس من الأذى الذي يتعرضون له على أيدي ‘‘الأفارقة‘‘ في موريشيوس.
هذا هو الغرب بالمللي.. يسرق أرضك ثم يهجرك وإن اعترضت يقتلك.. ألف سلاح معلق في أصابع تسع، ومن إصبع واحد يُلقي لك حفنة من المساعدات.. ليس لأسباب إنسانية.. بل حتى يجد ما يدافع به عن نفسه إذا انكشفت جريمته.. حسنًا لقد قتلنا ألفًا وأنقذنا واحدًا من الجوع.. فليذهب الألف في سلة قمامة التاريخ، ولنصنع بطولتنا من هذا الهزيل الذي أطعمناه بعد أن أهلكنا نسله.
يخرج الخرف بايدن والمختل أولاف شولتس كل دقيقة ليذكّروا العالم بأنهم حذروا الإسرائيليين من القتل واسع النطاق، وأنهم على الدوام مستمرون بدعم الفلسطينيين الأبرياء.. نفس الخدعة الغربية تتكرّر ألف مرة، كل مرة بذات الطريقة.. القتل واسع النطاق والإحسان الشحيح لمن فلت من مقصلتهم.. وكل أملهم فقط أن تُسرع إسرائيل في مهمتها.. القتل حتى الإبادة.. ثم يقيمون متحفًا للناجين.. لبواقي بشر مزّعتهم الحرب.. ويرمزّونها دليلًا على حضارتهم.. وهي بالفعل كذلك.. حضارة الإفناء والمحو حتى لا يبقى على الأرض سوى من سار في ركابهم.
تشاجوس تتكرّر في فلسطين.. نفسه الطمع وذاته الجوع، هي الإبادة عينها وهو الاستئصال بحذافيره.. وهو هو الرجل الأبيض.. يكره من يقاوم نموذجه.. ويمقت من يُطالب بحقه.. يشيطنه.. يسعى لمحوه.. حتى إذا نجح في مراده.. خرج علينا ليقول ‘‘أنا آسف‘‘ لمن تبقّى من شهود المجزرة.. ثم يخبرك أحدهم أن المعركة فقط مع الصهاينة.. والله أبدًا.. هي مع الغرب وحضارته أولًا وقبل كل شيء.
لعنة الله عليهم أجمعين.