أوراق الجامعة العربية التي لا تقدمها لجنوب إفريقيا

كارم يحيى

بعد هزيمة 1967 شاعت بين المصريين نكتة ساخرة بطعم العلقم. يسـأل الرئيس “عبد الناصر” وهو يتوجع من ألم في خاصرته قائد الجيش “عبد الحكيم عامر” عن مصير غزة، فيجيبه:
ـ ” ولايهمك ياريس غزة وراحت”.

الجامعة العربية

ولا أعرف لماذا تذكرت هذه الأيام تلك النكتة المريرة؟، وأنا أبحث عن الموقع الرسمي لجامعة الدول العربية بشبكة “الإنترنت”، فلم أخطئ الظن. فحاله من حال النظام الرسمي العربي “المرفوع من الخدمة”. ويمكن لمن لديه وفرة وقت تصفح الموقع، ومعه صفحة “الفيس بوك” الرسمية للجامعة، التي تتكرر فيها الصور الفوتوغرافية للسيد الأمين العام بلا كلل أو ملل. وتغيب عنها ما يماثلها عن مأساة حرب التجويع والإبادة ضد الفلسطينيين في غزة.

ليلة تونسية كاشفة

ولأن الشيء بالشيء يذكر، أنعش الموقع والصفحة عندي ذكريات مساء يوم 7 أبريل (نيسان) 2017 عندما ذهبت كمراسل صحفي مقيم بتونس لتغطية ندوة خصصتها منظمة التربية والثقافة والعلوم “الألكسو” التابعة للجامعة للاحتفاء بكتابين للأمين العام صدرا منذ سنوات عديدة خلت قبلها. فزادت الدهشة على ما توقعت.

ويكفي الإشارة إلى أن وفدا صحفيا عرمرما صحب الأمين العام مع إقامة سياحية فاخرة بفندق سبعة نجوم، علاوة على نسخ وفيرة من الكتابين تفوق سخاء كرم إهدائها لحضور الندوة. وزاد من الشعور بالضيق والاختناق ليلتها طواف موظفي المنظمة/ الجامعة بقاعة الندوة بين الحين والآخر لتوزيع فائض لا ينتهى من نسخ الكتابين، علاوة على فيض كلمات النفاق والمداهنة لمذكرات أو ذكريات لا تحمل جديدا. وقد تفضل اثنان من كبار إعلامي الدعاية للأنظمة الدكتاتورية، بما في ذلك نظام “بن علي”، بإلقاء محاضرتين، مدفوعتي الأجر وبكرم بالغ، عن عظمة الأمين العام وبهاء كتابيه.

وقتها ظل يلح على خاطري ملايين الفقراء في ربوع عالمنا العربي، بما في ذلك بلد الأمين العام. وأيضا كتاب المثقفة الإمارتية “ظبية خميس” عن بؤس ما يجرى في أمانة الجامعة العربية إنطلاقا من تجربتها وغيرها في العمل بمقر الجامعة بالقاهرة، والصادر من “دار رياض الريس” في بيروت 2013. أي قبل ما كنت شاهدا عليه في تلك الأمسية التونسية بنحو خمس سنوات. وكأن لا كلام “ينفع أو يشفع”، أو يستنزل بنا وبشعوبنا الرحمة، وبعض رأفة ورشادة.

من الأوراق المغيبة للجامعة

قبل أيام وبينما تأتي الأخبار مصورة على الهواء عن تجويع وذبح شقيقاتنا وأشقائنا وأطفالنا في غزة، وحتى وهم جوعى يبحثون عن كسرة خبز، عثرت في واحد من المكتبات والأرشيفات المهمة على مجموعة مطبوعات أصدرتها الجامعة العربية بين الخمسينيات والستينيات، وقتما كان أمينها العام الراحل “عبد الخالق حسونة”. وهي توثق لتقارير عن جرائم الإرهاب الصهيوني الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني فوق أرضه المحتلة عام 1948 وحتى منتصف الخمسينيات، وكذا في قطاع غزة ضد المصريين واللاجئين الفلسطينيين خلال العدوان الثلاثي واحتلال إسرائيل لها مع شبه جزيرة سيناء المصرية لنحو 18 أسبوعا.

وأكتفي بالإشارة بخصوص جرائم الإرهاب ضد فلسطينيي 1948 خلال السنوات الأولى بعد إعلان قيام هذا الكيان الاستعماري العنصري إلى تقريرين للأمانة العامة للجامعة (إدارة فلسطين ـ الشعبة السياسية) إطلعت عليهما، وجاءا تحت عنواني: “اضطهاد العرب في إسرائيل (1)” و “اضطهاد العرب في إسرائيل (2)”، والمطبوعين بدار الطباعة الفنية 36 شارع خيرت بالقاهرة عام 1955. والأول يقع في 36 صفحة والثاني يشغل 42 صفحة.

واستند التقريران إلى مصادر وشهادات موثوقة، وبعضها من الصحافة الإسرائيلية والأمريكية، مع دقة توثيق بيانات النشر، تكشف عن جرائم الصهيونية التي لم تتوقف لليوم من مجازر وقتل، وإعدام مدنيين لا يحملون أي سلاح، وفنون وفظاعات تعذيب في سجون الاحتلال، وتدمير منازل أو الاستيلاء عليها، واقتلاع مجتمعات فلسطينية بكاملها وإلقائها في الصحراء، والعدوان على المقدسات الإسلامية والمسيحية. وبدوره كان التجويع سلاحا صهيونيا معتمدا رسميا من أجل تهجير أصحاب البلد كما الآن عام 2024.

غزة 1956 وقبل “حماس”

ومباشرة بعد عدوان 1956 وانسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء وقطاع غزة، كان هناك جامعة عربية، على الرغم مما كيل لها من انتقادات وجناية الخلافات والزعامات السلطوية عليها، تسرع بإيفاد بعثة تحقيق وتوثيق تعمل على الأرض، وتعاين آثار الهمجية الصهيونية. وتجمع الشهادات من الضحايا وشهود ما جرى، وتعود بحصيلة من الصور الفوتوغرافية. ثم تقوم جامعة هذه السنوات بنشر كتاب بعنوان “اعتداءات إسرائيل على قطاع غزة وسيناء من 29 أكتوبر (تشرين الثاني) 1956 إلى 8 مارس (آذار) 1957”. وهي المطبوعة الوثيقة التي أتيح لي الاطلاع على طبعتها الثانية الصادرة عام 1965.

اعتداءات إسرائيل

لم تكن في هذه السنوات قنوات فضائية تأتينا بالصور الحية المباشرة العابرة للحدود على مدار ساعات النهار والليل. لكن هذا الكتاب يكشف ويوثق بالكلمة المطبوعة والصورة الفوتوغرافية، وبقوة ودقة واحترافية تحترم العقل، جرائم مماثلة لما تشهده غزة منذ 7 أكتوبر 2023.

وفي صفحات الكتاب توثيق لجرائم الإبادة الجماعية مع العثور على مقابر تضم عشرات الجثث المضروبة من الخلف بالرصاص في رؤوس/ جماجم الضحايا، والتعذيب، واغتصاب النساء، وسرقة ونهب البيوت، واستخدام الاحتلال الأمصال منتهية الصلاحية ضد أهل غزة وسيناء واعتقال طبيب مصري وتعذيبه لأنه كشف هذه الجريمة وأبلغ عنها الصليب الأحمر الدولي. ويورد الكتاب قائمات بأسماء الشهداء ضحايا هذه المجازر، وبأعداد الاعتداءات على قطاع غزة وتواريخ حدوثها منذ 1948.

ولعل الحمقى السذج والكاذبين المفترين يعترفون بأن كل هذا الكابوس الوحشي الذي عاشته غزة مع سيناء كان أن ارتكبته إسرائيل قبل نحو ما يزيد على ثلاثين عاما على “حماس”، التي تأسست عام 1987. وبالطبع قبل نحو 67 عاما من عملية “طوفان الأقصى” المقاومة البطولية، والمشروعة بمقتضى القانون الدولي وحق الشعوب في حمل السلاح ضد المحتل.

جامعة المباحات الممنوعة

بعد الثورتين التونسية والمصرية بأشهر معدودة، ذهبت كاتبا يبحث وصحفيا “بالأهرام” إلى مقر الجامعة العربية بالقاهرة، ساعيا للإطلاع على ما في أرشيفاتها من أوراق عن فترة إقامة الزعيم “الحبيب بورقيبة” بالقاهرة خلال الأربعينيات من القرن العشرين. وفي البال كتب ورسائل جامعية طالعتها عن علاقة “بورقيبة” بالجامعة وبأول أمين عام لها “عبد الرحمن باشا عزام”. ولأن بيروقراطية جامعة الدول، كما يبدو، ظلت على حالها حتى بعد موجة الانتفاضات والثورات. تحجب المعلومات وتمنع الإطلاع على مواد أرشيفية مضى عليها أكثر من نصف قرن، اضطررت للكتابة إلى الأمين العام حينها الدكتور “محمد العربي”، لكنني لم أتلق لليوم ردا.

ولعل الحال أصبح أشد بؤسا والحجب أقوى بأسا. لأن زميلة صحفية مصرح لها بتغطية أخبار الجامعة العربية وتتردد على مقرها بالقاهرة منذ نحو عشرين سنة أخبرتني بأنه لم يعد مسموحا لصحفي، وإن كان معتمدا لدى أمانة الجامعة، تخطي حدود الطابق الأرضي، والصعود إلى مكتب أي من المسئولين بالأدوار الأعلى للحصول على تصريح خاص، أو للاستنارة بمعلومات وآراء كخلفية لنشر صحفي.

وما سبق، تذكرته آسيا على حالنا مع هذه الجامعة ممثل وعنوان النظام الرسمي العربي عند قراءة كلمات مقدمة كل تقرير مطبوع في عهد “حسونة” طالعته عن أحوال فلسطين في الخمسينيات. وهذا لأن الرجل رحمه الله كان يشدد عند إصدار كل مطبوعة منها على التزام الجامعة العربية بإتاحة هذه التقارير والمعلومات على أوسع نطاق ممكن. وربما يفسر هذا ما صادفني من طبعة ثانية لهذا التقرير عن احتلال غزة وسيناء، ويحمل تاريخ نشره عام 1965.

هل تهتم وتفعل؟

وحقيقة لا أعرف ما هو مصير مثل هذه التقارير داخل هذا المبنى العملاق للجامعة العربية بقلب القاهرة، والتي تعد وثائق تاريخية ذات قيمة ومصداقية، والشاهدة على جرائم إسرائيل المتأصلة في صهيونيتها والمستمرة للآن؟. وهل إذا ما طلبها صحفي اليوم للاطلاع، ولا أقول مواطن لا يعمل بالصحافة له حق المعرفة بدوره، يستجاب لطلبه. أم يلقى مصير وخيبات ما إختبرته بنفسي، وما يعاينه ويعانيه زملائي الصحفيين حاليا بمقر الجامعة ؟.

لكن يقينا لم يسمع أحد منا بعد أن الأمانة العامة الحالية لجامعة الدول العربية تفضلت وقامت بتسليم دولة جنوب أفريقيا هذه التقارير وغيرها. وهو ما يفيد معركتها أمام محكمة العدل الدولية دفاعا عن حق الشعب الفلسطيني وغزة في الحياة وضد الإبادة الجماعية. ولا أريد القول بأنني أظن وغيري أنها لن تفعل، ولن تهتم. لأنني أظل استبشع هذا الحال ولا أتصوره.

ولا أرغب في الذهاب أيضا إلى ما يقال وللأسف عن أن بالجامعة العربية مراكز حاكمة مسيطرة تحرص على محو الذاكرة وتغييب الوعي بالواقع، وذلك اتساقا مع خيارات النظام الرسمي العربي منذ السبعينيات ولليوم في القبول بالصهيونية والتطبيع معها، أو على الأدق قواه الأكثر نفوذا بالجامعة.

الجزيرة مباشر

Exit mobile version