في علل كساح الأمة وشروط الاستئناف

حرية الإرادة

أبو يعرب المرزوقي

هل يمكن أن نصوغ علميا علل الكساح الذي يصيب الأمم فيفقدها القدرة على تحقيق شروط الوجود أولا والبقاء ثانيا إذا اعتبرنا الشروط الأولى متعلقة بحرية الإرادة والشروط الثانية برجاحة الحكمة بحيث تكون حرية الإرادة هي الغاية ورجاحة الحكمة هي الأداة؟

حرية الإرادة

لا شك أن الأمر معقد لكن ليست هذه المرة الوحيدة التي أحافظ فيها على “عيب” التعقيد الذي اتهم به. فكل فكر يبحث عن حل لمشكل يكون تابعا لتعقيد المشكل وليس لتبسط المستشكل.

فلست أنا الذي جعل الأمر في ذاته هو المعقد وليس كلامي عليه ومحاولة إيفائه حقه في التحليل المتحرر من وهم الفكر البسيط: الفكر لا يكون بسيطا إلا عند البسطاء.

ولما كنت لا اعتقد أن من يزعمون التيسير من اجل نيل الشهرة بدلالة عدد القراء فإن الأمر لا يغريني إذ يكفي أن يوجد بين شباب الأمة من يطلب الفهم دون الاكتفاء بموضة النجومية.

فإني أخاطب هذا النوع من القراء على قلته. فالأمم لا تنبي على الكم بل على الكيف. ولا شيء اعقد من العبارة عن الكيف في تحليل الظاهرات الإنسانية التي هي اكثر تعقيدا من الظاهرات الطبيعية لعسر الوصل بين الحر والمضطر من أفال البشر.

  1. فوجود الكساح يمكن تعريفه بكونه ما نتج عن غياب الإرادة الحرة ومن ثم فقدان الغاية وهو إذن مشكل فساد الرؤية الذي يفقد الإنسان سعيه ليكون “رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” فلا يقبل عبادة غير ربه (بلغة ابن خلدون).
  2. وبقاء الكساح يمكن تعريفه بكونه ما نتج عن غياب الحكمة الراجحة في علاجه. ولما كان فقدان رجحان الحكمة هو حال الصم البكم العمي الذين لا يعقلون ولا برجحون فهو إذن مشكل سقم العقل الذي يفقد الإنسان سعيه ليكون سامعا ناطقا بصيرا يعقل ويرجح.
  3. فيكون أثر 1 في 2 جعل الإنسان ساعيا للتصدي لما يحول دون حرية إرادته باستراتيجية علاج شروط وجودها البعيدة قبل القريبة وذلك هو رجحان الحكمة أي الوقاية بدلا من العلاج أي توقع المستقبل والاستعداد له: وهو معنى الآية 60 من الأنفال.
  4. ويكون اثر 2 في 1 جعل الإنسان ساعيا للتصدي لما يحول دون رجحان حكمته بألا يظن الوجود قابل للبقاء من دون حماية شروط الوجود للوصل بين الحاضر والمستقبل أي استراتيجية وصلا هو عين علاقة النظر والعقد (سياسة التربية وتطبيقاتها) بالعمل والشرع (سياسة الحكم وتطبيقاتها).
  5. وذلك هو جوهر الإستراتيجية السياسية التي أبحث عنها لضمان نوعي الشروط التي تزيل الكساح فتسترد ما فقدته الأمة من حرية الإرادة ورجاحة الحكمة. فكيف يمكن أن نضمن العلاج بعد فرطنا في الوقاية من الكساح:
    أ. فالنجاح في استعمارنا للأرض تعميرا يسد الحاجات العضوية كافيا ليمكن من التغلب على الحوائل دون شروط الوجود الإنساني.
    ب. النجاح في استخلافنا فيها استخلافا يسد الحاجات الروحية كافيا ليمكن من التغلب على الحوائل دون شروط بقاء الوجود الإنساني.
    وبين أننا قد فشلنا في “أ” ونكاد نخسر “ب”. ولولا رحمة الله وحفظه للرسالة الخاتمة لخسرنا “ب” بالكلية ولما بقي أي أمل في الاستئناف. وكل أعدائنا يعلمون ذلك: لذلك فهم يركزون حربهم ضد “ب” لأنهم ضمنوا فشلنا المطلق في “أ”.
    والفشل المطلق في “أ” هو جوهر الفشل في التربية التي تفقد معنى الحكمة الراجحة التي تحقق الشروط الأداتية
    والفشل النسبي في “ب” هو جوهر الفشل في الحكم الذي يفقد معنى الإرادة الحرة التي تحقق الشروط الغائية.
    ولما كان “أ” و”ب” هما المعيق للاستراتيجية السياسة التي تحقق وقائيا شروط الوجود والبقاء فإنها تحتاج إلى معنى الدولة التي هي تجسد إرادة الجماعة الحرة ذات الحكمة الراجحة.
    فيكون ما تعاني منه الأمة قابلا للرد إلى مشكل تحرير الإرادة وترجيح الحكمة وبذلك تكون بنية الدولة التي ترعى نظام هذين العملين السياسيين في الجماعة أي التربية والحكمة بعدي السياسة التي تحقق حرية إرادة المواطن ورجاحة حكمته.

لماذا لابد من الجمع بينهما؟

حرية الإرادة التي تنفصل عن رجاحة الحكمة تؤدي إلى الحرب الأهلية الدائمة لأنها تؤدي إلى تفتت الجماعة فتحول دون توحيد المتعدد فتزيل شرط القوة أي إمكانية مفعول الآية 60 من الأنفال.

لذلك فلا بد من نوعين من المعايير التي يحتكم إليها لتحقيق وحدة المتعدد:

  1.  أولهما يتعلق بشروط الوجود وهي تتأسس على التساخر العملي أو تقاسم العمل المشروط بشرع يحدد الحقوق والواجبات: وذلك هو معنى دولة القانون. فيكون هذا المفهوم شارطا لشروط وجود الفرد المرتبط بوجود الجماعة العضوي.
  2. والثاني يتعلق بشروط البقاء وهي تتأسس على التساخر النظري أو تقاسم العلم المشروط بعقد يحدد قيم الحقوق والواجبات: وذلك هو معنى قانون الحكمة الراجحة. فيكون هذا المفهوم شارطا لشروط بقاء الفرد المرتبط ببقاء الجماعة الروحي.

فيتبين أن الوجود العضوي وحده لا يكفي لتحقيق البقاء لأنه يضيف إلى الشرط الطبيعي الشرط المتعالي عليها تعليلا للوجود وللبقاء. فيتضاعف مفهوم العالم: عالم الشهادة وهو الطبيعي وعالم الغيب وهو الروحي.

لذلك فلا يوجد مجتمع إنساني من دون دين سواء كان طبيعيا أو منزلا. وخرافة الإلحاد كذبة لأنها يه جوهر الوثنية الطبيعية التي تؤله الظاهرات الطبيعية فتقسمها إلى نوعين: الطبيعة المطبوعة ثم الطبيعة الطابعة.

وذلك هو المصدر الأول للميثولوجيا: كل ما يقوله الملحدون عن العالم الطبيعي يرد بعد أن صار العلم متيقنا من أن العالم الشاهد أي المادي ليس سرمديا بل هو حادث وزائل له بداية ونهاية ليس لهم جواب غير الميثولوجيا التي من تبقى من جنس العلم الخيالي Science fiction.

فيظن الدين بنوعيه إما علم خيالي لا يتجاوز رؤية إنسانية تؤله بعض الطبيعة لتفسير باقي الطبيعة ونظامها أو عمل خيالي يؤله كل الوجود لتفسير باقي الوجود ونظامه.

وقد افهم الحل الثاني لأنه ما يرد إليه الوجود يبقى من طبيعة مختلفة عما يفسره منه في حين أن الطبعانيين يصادرون على المطلوب فيفسرن الشيء بذاته. فلكأنهم قال الإله هو عين العالم وذلك ما يزعمه ابن عربي: فيكون الملحد موحدا للطبيعة التي هي عندهم رب نفسها.

وتلك هي علة موقفي من التصوف الفلسفي الذي يختلف عن الزهد في الإسلام. الزهد في التصوف الفلسفي ملحد بالجوهر ولعل أفضل من عبر عنه بدون نفاق صاحب وحدة الجود المطلق أي التلمساني الذي هو زنديق لا يؤتمن على شيء ولا يؤمن بأي قيمة.

وحتى من لا يقولون بهذا المعنى فهم منافقون لأن جل سلوكهم من جنسه لأنهم يخدعون الشعوب إذ يلغون ثورتي الإسلام وتلك هي علة الكساح الذي تعاني منه الأمة والاستئناف يقتضي التحرر منه وقاية وعلاجا:

وكلما كان الحاكم شديد الطغيان كان معتمدا على دجل الوساطة الروحية لدعم الوصاية السياسية فيكون زعيم مافيا وليس قيما على إدارة جماعة حرة وحكمتها الراجحة.

وكلما كان الحاكم شديد الإيمان بحرية الإرادة ورجاحة الحكمة كان معتمدا على نسبية سلطانه ونسبية علمه فيحتاج إلى تطبيق الآية 38 من الشورى التي تعبر عن الجماعة الحرة.

وأخيرا فإن هذ الفصل الأول من محاولة حول علل الكساح الحضاري في امتنا بعد مجدها السالف سيتلوه بإذن الله فصل ثان حول نفس الظاهرة ولكن من حيث الشروط المتعلق بمعادلة الأحياز التي هي المحدد لمنازل الحضارات وقابليتها للاستئناف بعد الانحطاط.

Exit mobile version