مقالات

وائل الدحدوح في عيون النمط التونسي

نور الدين الغيلوفي

1. كتبتُ، غيرَ مرّة، إنّ من لم يصبه طوفان الأقصى بصدمة تتبعثر لها أفكاره وتهتزّ معتقداته يعسر عليه أن يكون قد فهم الذي يجري. طوفان الأقصى لا ينتمي إليه إلّا من شهد زلزالا في رأسه ارتبكت له أفكاره التي اطمأنّ إليها طويلا.

وائل الدحدوح مدير مكتب قناة الجزيرة في غزّة
وائل الدحدوح مدير مكتب قناة الجزيرة في غزّة

2. الوضعيّون المطمئنّون إلى وضعيّتهم يبدون عجزا عن فهم الذي يجري لأنّهم لا يملكون أدوات للقراءة ولا أسبابا إلى الفهم.. كلّ الأمر لديهم فرضيّات تحتاج إلى كثير من الحجج والبراهين لتُدعَمَ. وليتهم أخذوا بشروط البحث العلميّ ليكون من كلامهم ما يقبل البرهنة.

3. هؤلاء يدّعون عقلا لا يملكونه لأنّهم حاصروا العقل وقصفوه عندما جعلوه عدوّا للإيمان. ولا أحد يدري من أين جاؤوا بهذه العقيدة.. العقل انفتاح على التعدّد والاختلاف ووعي بنسبية الحقيقة وإدراك لأنّ الصواب والخطأ احتماليان وليسا يقينيين. الإيمان هو أعلى درجات العقل. ونفي الإيمان وتركه أو الاستهانة به دعاوى لا دليل عليها واستبدال لدوغمائية بدوغمائيّة ضدّها.

4. هؤلاء النمطيّون يحملون في جيوبهم وصفة لكلّ شيء وإجابة عن كل سؤال وحلّا لكلّ مشكل رغم ما يتظاهرون به من حيرة. لقد جعلوا من لا أدريتهم كهنوتًا وهم لا يدرون. ولأنّهم يعيشون وهمَ كونهم يملكون ناصية العلم ويسيطرون على أسرار الوجود بسلاح العقل فقد انغلقوا على محفوظات لهم قديمة وصاروا دوغمائيّين مطمئنّين إلى دوغمائيتهم يرون في أنفسهم مرجعا لكلّ شيء يملكون ما به يكونون أوصياء على خلق الله.. بل على الله نفسه.

5. هذا أحدهم يتابع من جحره أحداث طوفان الأقصى لا يرى منه غير ما تسمح له مراياه القديمة المهشّمة. لفته ما حصل لمدير مكتب قناة الجزيرة في غزّة وائل الدحدوح وضاق بتعاطف الناس معه ولم تسغ له ردود الفعل التي تُكبر جبروت الرجل وقدرته الكبرى على التحمّل.. وصبره العظيم. ولأنّ لوجسياله لا يقرأ معنى اسمه الصبر فقد جادت عليه قريحته الجريحة بهذا القول:
(( وائل الدحدوح ليس بطلا خارقا.. وائل إنسان بسيط جدا في عالم متوحش.. وائل يعاني من إضطرابات نفسية خطيرة ويحتاج علاجا.. الحشود تقسو عليه وتمدح ضعفه ومأساته وكبده المعضعض.. وائل غائب عن الوعي منذ أسابيع.. أنه يتضاءل مثل حفنة ثلج في يوم مشمس.. وائل يحتاج حصصا طويلة من العلاج.. ولا أرجح فرضية نجاته وإستعادته (هكذا) لمداركه العقلية..
كفوا عن مدح رجل يحمل مقبرة بين ضلوعه ومحيطات متجمدة من الدمع في مقلتيه..
الإهانة الكبرى؛ وائل لا يبكي.)).

6. كاتب هذه التدوينة يستعمل كلمة الحشود للتعبير عن هؤلاء الذين يرون في وائل الدحدوح بطلا. وفي العبارة ما فيها من تحقير للناس ومن استعلاء عليهم. يستعلي عليهم لأنّهم يرون ما لا يرى. فماذا يرى هو؟
يرى صاحب التدوينة:
– أن وائل الدحدوح ليس بطلا خارقا.
– وأنه إنسان بسيط جدّا.
– وأنّه غائب عن الوعي.
– وأنه يتضاءل..
– وأنّه يحتاج إلى حصص طويلة من العلاج.
– وأنه فاقد لمداركه العقليّة.
– وأنّ فرضيّة نجاته واستعادته لمداركه العقلية غير ممكنة !.
– وأنّه ليس أهلا للمديح !
– وأنّ القول إنّه لا يبكي إهانة.

7. لا أذكر أنّ أحدا من الناس ذهب إلى اعتبار وائل الدحدوح بطلا خارقا. البطل عند ابن النمط هذا لا يكون إلّا خارقا، وليس من بطل خارق إلّا ما كان خيالا. ولأنّ وائل الدحدوح رجل من لحم ودم ولأنّه فلسطينيّ ولأنّه مراسل لقناة اسمها الجزيرة فلا بدّ أن تدخل عليه ليس. فلا هو بطل ولا هو خارق. “وائل إنسان بسيط جدا”. هذا الخطاب يستبطن القول بأنّ الناس نمطان بينهما مسافة؛ نمط البسطاء ونمط أبناء النمط غير البسطاء.

8. استنادا إلى ما تعرّض إليه وائل الدحدوح فإنّه لن يكون في باقي أيام عمره إنسانا سويّا. لا بدّ أن يكون “غائبًا عن الوعي”. ولا بدّ من أنّه “يتضاءل”.. ولا يحتاج إلّا “إلى حصص طويلة من العلاج”، لأنّه لم يعد كائنا سويّا. وليس له من دواء إلّا من صيدليّة أبناء النمط التونسي.

9. لا أظنّ أنّ أحدا مدح وائل الدحدوح بعدم البكاء. هذا نوع من البطولة لا وجود له إلّا في رأس كاتب التدوينة الذي “يغنّي ويردّ على جناحه”. فلا أحد يدري إن كان الدحدوح قد بكى أم لم يبكِ وهو بعيد عن الكاميرا. البكاء استجابة عاطفية لشعور يجده الإنسان، ولا أظنّ أنّ الدحدوح خال من العاطفة. وعدم رؤيتنا نحن المشاهدين لبكائه لا يعني أنّه لم يبكِ. وهب أنّه لم يبك، فهل يقال لمن لا يبكي إنّه بطل؟ من أين جاء النمطيُّ بهذا المعنى؟

10. لا أظنّ أنّ صاحب التدوينة معنيّ بأن يفهم. كل الذي يعنيه أن يوقع ذبابته في طبق المزاج العام من منطلق المخالفة لا أكثر. ولو كان يبحث له عن فهم لوجد في قول الدحدوح ذاته ما يذهب حيرته.

11. أجرى الإعلامي محمود مراد حوارا مع وائل الدحدوح سأله فيه: ما سرّ قوّتك؟
أجاب وائل:
“وطّنت نفسي على أن أفوّض أمري إلى الله. ليس أفضل من أن ترضى. كلمة السر لاحتمال أي مصيبة هي أن ترضى وتحتسب وتسلّم أمرك إلى الله سبحانه وتعالى، لأنّ أي خيار غير ذلك سيكون خيارا فاشلا صعبا ومرّا وقاتلا، وأمر الله سوف يمضي. اصبر واحتسب وقل يا رب نسألك القبول…”.

12. لقد أدرك وائل الدحدوح أنّ في صيدلية الإيمان دواء اسمه الصبر، فأخذ منه جرعة تكفيه لتحمّل جميع تلك الأهوال التي عاش بعضها أمام أعين المشاهدين حتى أولئك الذين يرفضون مشاهدة شاشة قناة الجزيرة لأنّها لا تليق بعيونهم النمطيّة.

ملاحظة ختامية لهذا المدوّن ولأبناء النمط عموما:

حين تسمع وائل الدحدوح يتكلّم في الحوار الذي أجراه معه زميله محمود مراد في برنامجه “أثير” وترى حضوره الذهني وسعة ثقافته وحسن اختياره لعبارته وواضح بيانه احذر أن تلتفت إلى نفسك، فإنك إن فعلت فسترى أمامك عملاقا تحتاج إلى أن ترفع بصرك لتراه.. ستقف على ضآلتك بحضرته.

يبقى سؤال بسيط لابن النمط المفدّى: ما مفهومك للبطل يا بطل؟ وماهي الملامح التي تراها واجبة للبطل حتّى يكون خارقا؟ ملامح شمشون الجبّار ؟!

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock