أساطير مؤسِّسة
نور الدين الغيلوفي
لنا في كلّ ناحية من برّنا جدٌّ أو سيّدٌ أو أمٌّ له أو لها فينا مقامٌ.. مقامات نتداعى إليها نطلب الاقترابَ منها والتقرّبَ بها.. تلك قداسة الأسلاف فينا..
ومن أسلافنا أولياء صالحون لا تستقيم لنا حياة إلّا بأنفاسهم تأتينا من أضرحتهم ومن التراب الذي حولها.. تأتي أنفاسُهم غضبًا أو عفوًا ورضًا.. تأتي مع المطر والريح وتأتي مع الشهيلي “الرغراغي” ومع الأتربة المتعاندة.. وتأتي مع المرض ومع الشفاءِ منه، وتأتي مع التأزّم والانفراج.. وتأتي مع النجاح.. فإذا كان من أحد من الأولياء فعلُ “دَقّ” كانت أذاةٌ لا تزول إلّا بزيارته لطلب الصفح إليه.
- يا جدّي يا حنّان، إذا نجح ابني فلك منّي جديٌ أسود لا شية فيه.
- علاش أسود؟
- الأسود في الأنعام لونٌ ملَكيٌّ من الصنف النادر العزيز، والولاء للأولياء يكون بما عزّ من نوادر الأرزاق.
تكاثر أولياؤنا حتّى ضاق البرّ عنهم.. ولو كان لنا في البحار سهمٌ لرفعنا لهم شواهد على الماء نذبح عندها النذور. ولكنّنا أهل تراب، وترابنا عطشان لا يرتوي من ماء.. السماء شحيحة علينا.. ولعلّ ندرة الماء من أسرار أجدادنا، نستسقي الغمام بأسمائهم، فنحن لا نعرف وجوههم ولم يصفها لنا أحد حتّى من العارفين بسِير الأوّلين. الجدّ عندنا لا يظهر له وجه إلّا في هالة من نور فنحن لا نتبيّن من ملامحه شيئا لأنّه فوق اللَّمح وأكبر من الملامح.
نحن في قريتنا بنو جدّنا.. به سُمّيت وإليه نُسِبنا.. جدّنا الذي في السماء تروي الخرافات بأنّنا انسللنا منه.. ولا أحد منّا سأل عن أمّنا التي جئنا منها.. لعلّ جدّنا لم يكن يحتاج إلى زوجٍ ليأتيَ ببنين. وحين تسأل لا تظفر من أحد بجواب، لأنّ جدّنا لم يره من الرواة أحد.. كأنّه صوت الرعد في السماء أو وميض برقها.. حدّثونا عنه.. وكلّ الروايات مشافهة وشفاهُ الرواة شتّى.. وكم سقط من شفَةٍ طعامٌ.
أولياء صالحون
جاء ببغلته أو فرسه، لا أحد يملك أن يجزم.. جاء عليها نازفًا أو ميتا.. أين كان؟ ومن أين أتى؟ لا أحد يدري.
– حيث تعثر بغلتي أقيموا شاهدا تعهّدوه بديكٍ تزورون به مكان عثرتها كلّ عام.. ولكم حرية اختيار يومكم من سنتكم.
ترى العائلات تتداول على “الحوطة” ببغال وحمير عليها ديوك موصوفة للوليّة الصالحة.. وما أمّنا “الحوطة” سوى موضع عثرةٍ لبغلةٍ من كلام.
وحيث تضرب البغلة بحافرها احفروا تجدوا ماءً.. تلك عينكم منها تشربون.. وابنوا لي قبّة على مقام يليق بي، وينبغي أن تكون قبّتي بادية لمن يأتي من بعيد يستدلّ بها عليّ، وإيّاكم أن تتطاولوا عليها في البنيان.
وحيث تتمرّغ بغلتي من سفرها اتخذوا لكم قبّة صغرى أطلقوا عليها اسم “الفقيرة…” أطعموها من بقية ما تذبحون لي في موعد زيارتي الكبير.
أقيموا لي في كلّ سنة احتفالا كبيرا.. زيارةً تليق بي، واذبحوا عند أعلى العين التي تشربون منها سبعَ نوق سمانٍ يأكل منها الزائر والعابر والمقيم.
ثمّ كانت القرية حول ماء.. تحيط بها مقامات ثلاثة تحرس ليلها ونهارها.. وصارت قريتنا محجّة لمن سمع عن جدّنا أو جاءه في المنام يدعوه إلى زيارته والأكل من لحوم ذبائحه.
الزيارة
كانت الزيارة تمتدّ على ثلاثة أيّام.. كنّا ونحن أطفال صغار نتداعى لنشهد يومها الأكبر قريبا من المقام.. نرفع رؤوسنا إلى السماء.. نرى طيورا تحوم.. نخفض رؤوسنا.. ذاك جدّنا يرقبنا تحيط به حاشيتُه.
المشهد الأعظم.. خيول تأتي “حاملةً” من هضبة بالجوار على ظهرها فرسان بأيديهم بنادق يطلقون عيارات رشّ في السماء نسدّ لأصواتها آذاننا.
وفي يوم مشهود كان الناس عن يمين وشمال لتمرّ بينهم الخيول “الحاملة”.. انطلق عيار فأردى أحد وجهاء القرية.. صخب كثير وصراخ ونواح قَلَبَ الاحتفالَ إلى مأتم.. حمل الفارسُ على فرسه وفرّ لا أحد يدري عنه شيئا. عمّ الذهول القرية ووجد الناس في أفواههم مرارة بقيتْ بها سنوات طويلة.
ستأتي الروايات بأنّ ذلك الفارس من نفزاوة.. كان عائدا من رحلة صيد وفي بندقيته “كرطوش” نسيه بها لم يستبدل به رشًّا حين قدم إلى الزيارة.. وقد صوّب بندقيته إلى الرجل سهوًا.. وسهوًا كان الرجل وجيهًا من أولي النعمة والبهاء.
مات الرجل الوجيه وترك على ذمّته زوجاتٍ ثلاثًا ببنين وبنات كثيرين وكثيرات.. عاشوا يعاودهم وجعهم بأبيهم كلّما جاء للزيارة موعد.. فكلّ زيارة، عندهم، كربلاء.
مات الرجل الوجيه وترك القرية معلّقةً في سؤال…