مقالات

أمينة قطب، في عيد الحب الحقيقي..

نصر الدين السويلمي

في عيد الحب الحقيقي.. هل ترانا نلتقي؟!
دعونا من عيد الجنس، فعيد حبّهم يغلب عليه الاحتفاء بالجنس وليس بالحبّ!

لنتحدّث عن عيد الحب…
هي أمينة قطب، من آل قطب، ولدت في قرية موشا بصعيد مصر سنة 1909. شبّت على الحياء، ثمّ على الأدب، ثمّ على الحبّ. كتبت القصّة بأنواعها، وكتبت منها العاطفيّة، اشتركت مع إخوتها سيّد ومحمّد وحميدة في كتابة قصّة الأطياف الأربعة.. كتبت الشّعر وتحدّثت في الأدباء بما يشبه النّقد..

أمينة قطب
أمينة قطب

نظرا لتقاليد الصّعيد والسّرد الإخواني الخجول، بدأت المرويّات من مستشفى السّجن الحربي أين التقى السّنانيري بسيّد وطلب منه أمينة، لكن في الحقيقة كان اللقاء قبل ذلك بخمس سنوات، بل أكثر من ذلك بقليل، أعجب السّنانيري بأمينة حين كانت في سنّ 15 سنة، قبل أن يدخل السّجن، وكتمها في قلبه كما كتمتها، كانت صغيرة وكانت التّقاليد لا تسمح بغير تدفّق العواطف وطوافها حتى يحين اللقاء.

في مستشفى السّجن الحربي، التقى السّنانيري بسيّد قطب ضحيّة للمرض وضحيّة للتّعذيب، جمعهما مستشفى السّجن الموحش، كان السّنانيري شديد الخجل لكنّه كان شديد الحبّ لأمينة، ورغم أنّ الرّجل في غاية العقل، وأنّه حوكم بالإعدام ثمّ خفّف إلى الأشغال الشّاقّة المؤبّدة “25 سنة” إلّا أنّ عاطفته اجتاحت عقله، وخشي أن تتزوّج أمينة، ففاتح سيّدا، حين طلبها كانت أمينة في سنّ الــ 20، وكان ما يزال لكمال 20 سنة حتى يخرج من السّجن!!! تلك بنت العشرين وهو رهينة لعشرين!! ربّما لم يكن كمال يأمل في زواج حقيقي بقدر ما كان يرغب في إلقاء الحمل عن عاتقه، يطلبها حتى يبرّر لنفسه بقيّة عمره حين يراها في بيت غير بيته، أو يرمقها حين تأتي إلى زيارة شقيقها سيّد مع رجل غيره يأخذ مكان حلمه الكبير.

وعده سيّد بالحديث مع أمينة.. تحدّث معها في أوّل زيارة، وافقت.. خُطبت له من خلف القضبان.. أصبحت تتردّد عليه.. وأفرغت فتاة العشرين عواطفها في كوكبة من الرّسائل الأدبيّة التي ينزّ عشقها وتنزف أشواقها.. ولما شعر بتعبها من التنقّل وما تلاقيه من مضايقات الحرّاس، قال لها “لقد طال الأمد وأنا مشفق عليك من هذا العناء، ومثل ما قلت لك في بدء ارتباطنا قد أخرج غدا وقد أمضى العشرين سنة الباقية، وقد ينقضي الأجل وأنا هنا، فلك الآن مطلق الحريّة في أن تتخذي ما ترينه صالحا في أمر مستقبلك.. ولا أريد ولا أرتضي لنفسي أن أكون عقبة في طريق سعادتك، إنّهم يفاوضوننا في تأييد الطّاغية ثمنا للإفراج عنا، ولن ينالوا منّي بإذن الله ما يريدون، حتى ولو مزّقوني إربا، فلك الخيار من الآن، واكتبي لي ما يستقرّ رأيك عليه، والله يوفقك لما فيه الخير”، ثمّ انصرف وانصرفت.. لاحقا ردّت عليه الفتاة بقصيدة “دعني أشاركك هذا الطّريق”، عاتبته فيها عن طلبه ذاك.

أفرج عن كمال سنة 1975، ربّما كانت تلك أطول خطبة جديّة في التّاريخ، 17 سنة والفتاة تغزل عواطفها في أبيات من الشّعر، ثمّ ترسل بها إلى السّجن الحربي.. أخيرا تزوّج كمال بأمينة، ستبدأ الحياة السّعيدة، لقد غامر الشّاب بطلب المستحيل، وركبت فتاة الصّعيد المستحيل، فكان أن تكسّر المستحيل والتقى الدّاعية بالبتول في يوم حبّ ليس كأيّام حبّ الإفرنج.

كثير من الأشياء الجميلة قد تكون السّبب في تعميق أحزاننا.. ذلك ما حصل لأمينة، كانت تعرف السّنانيري عن بعد، ولمّا سكنت إليه لست سنوات وجدت فيه كلّ شيء جميل، ما توقّعته وما لم تتوقّعه، كان السّنانيري لا يكلّفها ولا يطلب منها شيئا، لقد أثّرت فيه سنوات الفراق، لكن أثّرت فيه أكثر سنوات الانتظار، فتاة في العشرين تترقّب خطيبها لتتزوّجه في سنّ 37 ! إنّه التّحدّي، إنّه الإصرار على تمثُّل الحبّ في أرقى معانيه، التّضحية بزبدة العمر من أجل لحظة حبّ صادقة.. تسبّب خُلق الرّاقي الرّهيف كمال مع أمينة في مضاعفة أحزانها بعد أن تعلّقت به أكثر.. لقد عاد الزّوج إلى السّجن.. سجنوا الخطيب 17 سنة، منحوا الفتاة زوجا لست سنوات فقط لا غير، ثمّ سحبوه منها، وانطلقت المعاناة.. استعدت أمينة لجولة جديدة من التّعب ومن الأدب.. كتبت قصيدتها المشهورة، لعلّها أكثر القصائد العاطفيّة شهرة بين الشّباب الإسلامي “هل ترانا نلتقي”، جاء الجواب من الدولة المصريّة، لن تلتقيه أبدا، أيّتها الأرملة لقد انتحر زوجك!!!

أولاد الكلب، أولاد الدّم، أولاد الإجرام.. من فرط حقدهم وكرههم للحياة، للحبّ.. يكرهون حتى النّهايات العذبة لقصّة حبّ جميلة، لم يقولوا استشهد أو مات، قالوا انتحر، جاءها نذير الشّؤم في السّادس من شهر نوفمبر، إنّهم مجرمون مع الحريّة، مجرمون مع الأحرار، مجرمون مع الفتيات، مجرمون مع الشّاعرات، مجرمون مجرمون جدّا جدّا مع الحبّ…

ثمّ ما بال شهر نوفمبر وبالنا؟! في السّادس انتزع حبّ أمينة، وفي السّابع انتزع حبّ مئات من أمينات تونس… لكن العزاء كلّ العزاء أنّه وكما سمع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم خشخشة نعلي بلال في الجنّة، الآن الآن وبعيدا عن دولة الدبّابة الملهط، بعيدا عن القضبان السّميكة، ها نحن نستمع إلى صدى سمر قادم من الفردوس، تلك أمينة وكمالها يواصلان قصّة حبّهما الجميل في جنّة الله الواسعة.. في جنّة الله الخالدة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock