بِدعة اعتماد القرآن وحده وإنكار السنة النبوية
مصدق الجليدي
إنكار السنة النبوية: في الردّ على بِدعة اعتماد القرآن وحده للمعرفة بالدين وشريعته:
هذه بدعة جاء بها من عُرِفوا بالقرآنيين، ومن بينهم السوري محمد شحرور والتونسي محمد الطالبي، وهم أتباع تيار فكري يرى أصحابه الاكتفاء بالقرآن الكريم وحده لتبيان أحكام الشريعة وقضايا الدين، ويرفضون السنة النبوية ويرون أنها ليست وحيا بل اجتهادا بشريا من النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
إنكار السنة النبوية
وهو تيار له جذور وتاريخ منذ العهد النبوي. وقد تنبّأ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأن هناك بعض الناس سينكرون السنة النبوية، إذ قال (صلى الله عليه وسلم):
“ألَا هلْ عسى رجلٌ يبلغُه الحديثَ عنِّي وهوَ متّكئٌ على أريكتِهِ، فيقولُ : بيننا وبينكم كتابُ اللهِ ، فما وجدنَا فيهِ حلالًا استحللنَاهُ، وما وجدنا فيهِ حرامًا حرمناهُ، وإن ما حرَّمَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ كمَّا حرَّمَ اللهُ”.
أخرجه الترمذي (2664) واللفظ له، وأخرجه أبو داود (4604) مطولاً باختلاف يسير، وابن ماجه (12) باختلاف يسير.
والله تعالى أمر بالأخذ بكل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من أمر أو نهي أو بيان، قال تعالى: “وأنزلنا إليك الذكر لتّبيِّن للناس ما نزّل إليهم ولعلهم يتفكّرون” (النحل:44).
فها هنا أمر صريح من الله عزّ وجلّ للرسول (ص) بتبيان وشرح وتفسير ما نُزّل إليه للناس وتأويله لهم بالتطبيق العملي. وهذا الشرح والتطبيق ليس شيئا آخر غير السنة النبوية أو جزءا منها، كما سيأتي ذكره.
وقال تعالى: “وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا” (الحشر:7).
وقال تعالى: “من يطِع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا” (النساء: 80).
ومن الأمثلة على هذا النوع من السنّة المستوجبة لطاعة الرسول (ص) الأحاديث التي تحرّم الجمع بين المرأة وعمّتها والمرأة وخالتها، وتحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السّباع، وتحريم لبس الذهب والحرير على الرّجال، وغير ذلك من الأمور التي أمرت بها السنّة أو نهت عنها وهي لم ترد في القرآن الكريم.
وهذا النوع وإن كان زائدا على ما في القرآن إلا أنه تشريع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مما يجب طاعته فيه ولا تحلّ معصيته امتثالا لما أمر الله به من طاعة رسوله.
من بين وظائف السنة، فضلا عن تأكيد ما جاء في القرآن الكريم أو إضافة حكم تفصيلي لم يرد في القرآن الكريم، كما سبق ذكره:
1. بيان مُجمَل القرآن:
فقد جاءت كثير من أحكام القرآن العملية مجملة، فبينت السنة إجمالها، ومن ذلك أن الله أمر بأداء الصّلاة من غير بيان لأوقاتها وأركانها وركعاتها وغير ذلك، فبيّنت السنّة كل ذلك بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعليمه لأصحابه كيفيتها، وأمره لهم بأدائها كما أداها، فقال صلى الله عليه وسلم: (صلّوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري، وفرض الله الزّكاة من غير بيان لمقاديرها وأوقاتها وأنصبتها، وما يُزكَّى وما لا يُزَكّى، فجاءت السنّة ببيان كل ذلك وتفصيله، وشرع الله الحج من غير أن يبيّن مناسكه كلّها، فبين صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله تلك المناسك وقال في حجّة الوداع: “لتأخذوا عني مناسككم” (رواه مسلم).
2. تخصيص عامِّه:
فقد وردت في القرآن أحكام عامة جاءت السنة بتخصيصها، ومن ذلك قوله تعالى: “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين” (النساء: 11)، فهذه الآية عامة في كل أصل موروث ، فخصص صلى الله عليه وسلم ذلك بغير الأنبياء فقال عليه الصلاة والسلام: “لا نورِث، ما تركنا صدقة” (رواه البخاري).
3. تقييد مطلقه:
فقد ورد في القرآن آيات مطلقه جاءت السنة بتقييدها، ومن ذلك قوله تعالى: “من بعد وصية يوصي بها أو دين” (النساء: 11)، فأمرت الآية بإخراج الوصية من مال الميت ولم تحدد مقدارها، فجاءت السنة مقيدة للوصية بالثّلث.
أو تحليل أكل ميتتين، هما الجراد وميتة البحر، مع أن القرآن قد حرم أكل الميتة مطلقا.
4. توضيح المشكل:
فقد أشكل فهم بعض الآيات على الصحابة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح لهم ما أشكل عليهم، ومن ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية “الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم” (الأنعام: 82) ، شقّ ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس بذاك، ألا تسمعون إلى قول لقمان: “إن الشرك لظلم عظيم”) (لقمان: 13)، وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم عن خطإ أن المراد بالظلم في الآية عموم الظلم، فيدخل في ذلك ظلم الإنسان نفسه بتقصيره في بعض الحقوق، فأزال صلى الله عليه وسلم هذا الإشكال بأن الظلم ليس على عمومه، وإنما المقصود منه أعظم أنواع الظلم الذي هو الشرك بالله عز وجل.
أما شبهة تأخّر تدوين الحديث واحتمال تحريفه، فهذه نردّ عليها بأمرين:
أولا: نهى الرسول (ص) عن كتابة الحديث عنه خشية أن يختلط بالقرآن الكريم، كما حصل في الإنجيل مثلا. فالإنجيل الحالي خليط من أقوال الله وأقوال عيسى عليه السلام وسيرته فضلا عما دخل عليه من تحريف. وكذلك الأمر مع التوراة.
عن أبي سعيد الخدري: “أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تكتبوا عنّي، ومَن كتب عنّي غير القرآن فليمحه، وحدّثوا عنّي ولا حرج، ومن كذب عليّ – قال همّامٌ أحسبه قال: – متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار” (صحيح مسلم).
لكن لما حُفِظ القرآن جيدا في الصدور وأصبح من اليسير التفريق بين أسلوبه البلاغي وأسلوب الحديث النبوي أصبح بالإمكان تدوين الاحاديث. وقد أذن الرسول (ص) بذلك في حياته، كما فعل مع أبي شاه، لما طلب كتابا يُكتب فيه ما سمعه للتو من الرسول (ص) من توصيات: فقال: “اكتبوا لأبي شاه” (رواه مسلم).
غير أن الصحابة وكبار حفظة الحديث قبل عصر التدوين كانوا متشبثين بحفظ الحديث عن ظهر قلب وكانت لهم مَلَكة قوية في ذلك، لما تمرّس به العرب من حفظ الأشعار والأمثال ثم القرآن مع مجيء الإسلام، فلمّا ضعفت الملكة مع توسّع ملك المسلمين واختلاطهم بأهل ملل ونحل أخرى استشعروا الحاجة إلى تدوين الاحاديث وساعدهم في ذلك الوضع الحضاري والسياسي والمادي للأمة الإسلامية الذي سمح لها بالدخول في عصر التدوين مع القرن الثاني للهجرة، فدونت السنة النبوية.
ثانيا: من البديهي أن المرويات عموما، لا ما يوضع منها في خانة الحديث النبوي فقط، معرّضة للتّحريف والوضع (الاختلاق والكذب)، وقد قرأ المسلمون لذلك حسابا، فأسسوا لغربلة الأحاديث وتحديد درجة صحتها علم الجرح والتّعديل، وهو علم يعنى بالرجال الناقلين لحديث النبي صلى الله عليه وسلم والآثار والأخبار، والنظر في شرائط قبولهم، وأسباب ردّهم، فما استوفى من الأسانيد شروط الصحّة حكم بقبوله، وما كان فيه سبب أو أكثر من أسباب الرد رد.
أما عن مراتب الحديث فللعلماء تقسيمات كثيرة لأنواع الأحاديث، كل تقسيم نظروا فيه لزاوية معينة:
فلما نظروا إلى من ينسب إليه الحديث، قسموه إلى الأقسام الآتية:
- المرفوع : إذا كان الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
- الموقوف : إذا كان الحديث من كلام الصحابي رضي الله عنهم أجمعين.
- المقطوع : إذا كان الحديث من كلام التابعي.
ولما نظروا إلى طرق الحديث وأسانيده، وهي سلاسل الرجال الذين نقلوا الحديث عن قائله، قسموه إلى الأقسام الآتية:
- متواتر: إذا جاء الحديث من طرق وروايات كثيرة جدا، مثل خطبة الوداع.
- آحاد (أو غريب): إذا جاء الحديث من طريق ورواية واحدة فقط، ويسمونه أيضا بالغريب المطلق أو الفرد المطلق، أما إذا روى الحديث تابعي واحد عن صحابي، ثم رواه عن هذا التابعي راويان اثنان فأكثر، فهذه تسمى غرابة نسبية، أي أنه غريب وآحاد بالنسبة لرواية ذلك التابعي عن الصحابي.
ولما نظر المحدثون إلى حكم الحديث، وهل يُقبَل أو يُرد، قسّموه إلى الأقسام الآتية:
- المقبول: إذا انطبقت عليه شروط القبول، وكان صالحا لأن يُحْتج به، ويُعمل بمضمونه.
- المردود: إذا لم تنطبق عليه شروط القبول.
ثم قسّموا المقبول إلى عدّة أقسام:
- الصحيح: إذا انطبقت عليه أعلى شروط القبول.
- الحسن: إذا انطبقت عليه أدنى شروط القبول.
وفي أحيان كثيرة يستعمل المحدثون ألقابا أخرى مرادفة للألقاب السابقة، فمثلا يطلقون على الحديث الحسن أحيانا قولهم : جيد، كما يطلقون على الحديث الصحيح قولهم: على شرط الشيخين، ونحو ذلك من الكلمات المترادفة، وإن كانت هناك فروق دقيقة أحيانا بين هذه الاصطلاحات، لكن مرادنا في جوابنا هذا هو تقريب وتسهيل فهم هذه المراتب على وجه العموم.
ثم قسم المحدِّثون الحديث المردود إلى عدة أقسام:
- الضعيف: وهو ما أخلّ بشرط من شروط القبول.
- الموضوع: إذا كان في إسناده كذّاب أو متّهم بالكذب.
وفي أحيان كثيرة أيضا يستعملون مصطلحات مرادفة أيضا، فيطلقون على حديث ضعيف إنه حديث باطل، لا سيما إذا اشتد ضعفه، أو يقولون إسناده تالف، أو يسمون الحديث الموضوع بالمكذوب.
من ذلك حديث: “الباذنجان شفاء من كل داء” أو “الهريسة تشد الظهر” أو “حديث أهل الجنة العربية”، فإنها أحاديث موضوعة أي مكذوبة.
كما جعل علماء الحديث للمحدثين مراتب: منها الراوي، والشيخ، والمحدّث، والحافظ، والحاكم، وأمير المؤمنين في الحديث، مثل الإمام البخاري.
غير أننا ننبّه إلى أن علم الحديث قابل للتطوير لأنه علم انكبّ خاصة على فحص الأحاديث بمنطق الرواية وليس بمنطق الدراية، أي اهتم بنقد السند ولم يهتم كثيرا بالتثبت في معقولية المتن، أي مضمون الحديث نفسه. ويمكن مع قاعدة ابن تيمية الذهبية: موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، تطبيق منهج ابن خلدون في قبول الروايات والأخبار، بحسب موافقتها لطبائع العمران البشري، لكن بصفة جزئية فقط، لأن الأحاديث قد تشير إلى مسائل غيبية لا تخضع لطبائع العمران البشري، أو هي تدور حول مسائل قيمية أو تصدر أوامر توقيفية خاصة بالشريعة. وبصفة عامة يجب أن تكون الأحاديث المقبولة ملبية لروح القرآن الكريم وكلياته القيمية والإيمانية والوجودية.