نصر الدين السويلمي
فاختة اسم جميل لامرأة جميلة من الزمن الجميل.. فاختة بنت أبي طالب.. جاع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فأتاها، بعد أن سلّم، قال: عندك طعام آكله؟ قالت: إنّ عندي كسرة يابسة وإنّي أستحي أنّ أقرّبها إليك، فقال: هلمّيها، قالت فكسرتها ونثرت عليها الملح، فقال: هل من إدام؟
قالت: يا رسول الله، ما عندي إلا شيء من خلّ، قال: هلمّيه، فلما أتته به صبّه على طعامه فأكل منه ثمّ حمد الله تعالى ثمّ قال: “نعم الإدام الخلّ يا أمّ هانئ، لا يفقر بيت فيه خلّ”…كسرة يابسة! من شدّة صلابتها قالت أنّها كسرتها ونثرت عليها الملح! فأكلها ثمّ حمد الله!!!
بعد رحلة الإسراء
ذهب النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى فاختة بنت أبي طالب “أم هانئ” واستشارها في إخبار قريش بحادثة الإسراء، فتعلّقت بردائه وقالت “أنشدك الله يا ابن عم ألا تحدّث بها قريشا فيكذّبك من صدّقك”، فضرب بيده على ردائه فانتزعه منها وخرج.. ليلتقي من؟ ليلتقي أحد كبار سادات مكّة مُطعم بن عدّي، ومن أيضا؟ عدو الإسلام الأوّل أبو جهل! ثمّ ماذا؟؟؟ ثمّ قال لهم كلّ شيء!!.. حدّثهم عن الإسراء وما حوى..
كان صلّى الله عليه وسلّم يدرك أنّها صعبة.. وأنّ الدعوة في بداياتها وأنّ الوقت لا يسمح بنسف آلهة قريش وما تعنيه من عصبيّة وأبعاد قبليّة وتجاريّة ودينيّة، لكن الرسول الذي كان أدرى بعقليّة قريش الصعبة الشرسة أصرّ على قول كلّ شيء! قال لهم أنّ آلهتكم باطلة وأنّ الله هو الواحد الأحد!!!.. كانت صدمة كبيرة، تقتضي أن يجاريها أوّلا حتى يقنع بها ثمّ يشرع في طرح جرعة أخرى غير مألوفة في قلب أشرس وأغلظ قبائل العرب، قريش العصبيّة، قريش الجاهليّة.. لو كان من الحكماء والفلاسفة ورجال الفكر والعباقرة.. لقسّط الجرعات ولتجنّب مواجهتين، لكن الأنّبياء غير ذلك، حكمة الله أبلغ من حكمة الإنسان، قال له قلّ، فقال.. كذّبوه حين قرأ عليهم القرآن وما فيه من عذوبة وخصائص أبعد ما تكون عن كلام البشر، فكيف حين يقول لهم أنّه كان في بيت المقدس وأنّه صلّى بالأنّبياء من آدم إلى المسيح؟!!
الإسراء والمعراج
إيّ نعم، لقد قالها لهم! جمع عليهم التوحيد والإسراء! والبراق ونوح وموسى ويوسف والكلّ.. قال لهم كلّ شيء، وأبو جهل ينظر! يحملق!! أيّ قوّة يملكها نبيّنا الثابت الشامخ!
مساكين الذين يعبرون سورة الإسراء كما لو أنّهم يعبرون الطريق! مساكين كيف لهم أن لا ينتبهوا إلى حقل القرآن وهضابه ومرتفعاته وسهوله وجنّاته الوارفة، كيف لمن يعبر سورة بني إسرائيل أن لا يرتع ويتمعّن ويفقه ويستنطق؟ كيف؟
قال لهم إنّكم كنتم على ضلال، قال لهم أنّه ركب البراق وذهب في ليلة واحدة إلى القدس صلّى بالأنّبياء ثمّ عاد، قالها مباشرة لعدوّ الإسلام الأوّل أبو جهل.. ثمّ كان عليه أن يقول لقريش أشياء أخرى ليست باليسيرة، هم الذين استنكروا نزول القرآن على محمّد صلّى الله عليه وسلّم {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} في عقولهم المشحونة بالكبر والجاه الأجوف، تساءلوا لم لم ينزل القرآن على الوليد بن المُغيرة المخزومي عظيم قرية مكّة، أو حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي عظيم قرية الطائف، كيف ينزل على محمّد صلّى الله عليه وسلّم اليتيم الفقير.
هنا يقتضي المنطق الظاهر والعقل الإنساني المجرّد أن يحاول النّبي صلّى الله عليه وسلّم الاجتهاد في الرفع من شأنه حتى يصل إلى إقناعهم، حتى يستميلهم، حتى يقتربوا منه ليستمعوا إليه.. لكن ما الحلّ وقد نزلت آيات من القرآن قد تستغلها قريش في المزيد من التهكّم والاستصغار.
كان ذلك حين قرّرت قريش أن تتقرّب منه وأغدقت عليه الصّفات النّبيلة، سيّدنا ابن سيّدنا الصّادق الأمين.. ثمّ عرضوا عليه بعض التنازلات، دام الحوار لليلة كاملة، كانوا يبحثون معه عن منطقة وسطى، يرفعونه إلى مرتبة سيادة مكّة، يبقى على دينه ويمزجه ببعض دين قريش حتى لا تتحدّث قبائل العرب عن السّادة الذين قلب لهم الفتى اليتيم معتقداتهم…
سجال طويل، كان على النّبي أن يردّ عليه.. جاء الوحي ليحسم الأمر، لكن جاء يعاتب النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فهل سينقل لهم ما وصله من السماء بشكل حرفي ويتحمّل تبعات تهكّماتهم، هل سيتلو عليهم آيات تعاتبه بشدة!!! أم تراه سيكتفي برفض العرض وتلخيص الآيات بشكل يراعي غطرسة قريش؟
لقد حزم أمره! جمعهم ثمّ تلى فيهم قوله تعالى {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتّخذوك خليلا ولوّلا أن ثبّتناك لقد كدتّ تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثمّ لا تجد لك علينا نصيرا وإن كادوا ليستفزّونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لّا يلبثون خلافك إلا قليلا سنّة من قد أرسلنا قبلك من رّسلنا ولا تجد لسنّتنا تحويلا}.
{لتفتري علينا غيره}.. {لقد كدّت تركن إليهم}.. {إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات}.. إيّ نعم لقد نقل الآيات كما هي، ستكتشف قريش أنّه كاد يركن إليهم، ستكتشف أيضا أنّه تعرّض إلى التحذير الشديد وأنّ ربّه استعمل معه عبارات قويّة، لا تستعملها اللّات ولا العزّى ولا هبل مع كبارهم! رغم كلّ ذلك قال كلّ شيء… ببساطة لأنّ القرآن لم يكن يحدّث أبو جهل وعتبة وأميّة.. تلك كانت فواصل عابرة، كان القرآن يخاطب الإنسان منذ غار حراء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.