نور الدين الغيلوفي
الحمد لله،
عبارة مفتاح تجري على ألسنة أهل غزّة يعبّرون بها عن أحوالهم وهم يعانون أشدّ العذاب.. يُمزَّقون كلَّ ممزَّق.. يتجرّعون الموت المتراكب أكثر كثافة عليهم من وقع الزمن الممضّ، ويمضغون كلّ الترك والخذلان من أمّة تمتدّ في الجغرافيا من حولهم وتتكاثر في الديموغرافيا وتُكاثِر بها وتغرق إلى الأذقان في الثروات ولا تبدع في شيء غير إتلاف ما أوتيت من رزق السماوات والأرض بلا عناء.
الحمد لله،
يقولها الرجل المكلوم وقد غيّبت الأنقاضُ زوجَه وبنيه وكلَّ مقرَّبيه، فصار بين الأنقاض وحده بيدٍ لا يجد أختها ليصفقها بها من فرط الحسرة والوجع.. فيذرف دمعا لا يملك قوّة على مسحه.. يخالطه الدم.. وهو يحمد الله.
الحمد لله،
تقولها المرأة وقد راح كلّ الذين كانوا من حولها.. استشهد الأبناء والأشقاء والأحفاد وخرجت من بين الأنقاض ببعض زوجها فازت به لتكرمه بدفنه على عينها.. تحمد الله على ما وجدت وتحمده على من فقدت.. وتفتّش عينٌ لها باقية على أشلائه انصهرت في الكلّ المحترق، ولا أمل.. وتحمد الله.
الحمد لله،
تقولها طفلة أفاقت من نومها غارقة في دمها على شبه سرير بشبه مشفى والناس من حولها يتهامسون: لا تخبروها،
لتعلم بعد حين أنّ جميع أهلها ارتقوا إلى الشهادة وتركوها وحدها لا تقوى على مسح دمعها.. ولا دمها الذي يطغى على وجهها.. وتحمد الله.
الحمد لله،
يقولها صبيّ ما زال يتدرّب على النطق يخرجها من عمق فزعِه لِما أصابه وقد وجد نفسه عاريا من كلّ شيء، فلا أمّ ولا أب ولا أشقاء.. ولا غطاء.. ويحمد الله.
الحمد لله،
تقولها فتاة تبيع لُعبَها لتشتريَ خبزا يقتات منه شقيقها الباقي لها من عائلتها كلّها.. تبتسم من تحت وطأة الأحزان عليها، وتحمد الله.
من أي طينة عُجن هؤلاء؟
من غير الطين الذي صُنعنا منه على كلّ حال.. يحمدون الله في ظلمات العذاب ومن تحت الأنقاض، وهم عُراة تحت الحِراب والسياط.. أمّا نحنُ، فإذا اختلف أحد منّا مع قريب له او صديق على أمرٍ تافه أو فوّت أمرا لا يقلّ تفاهةً، غرق في أساه حتّى إذا سئل عن حاله أجاب:
الحمد لله،
هذا إن تذكر الحمد
حمِد الله بأسنانه وأغلق على الحمد بمزلاج
“على كل حال”.
كأنّه حسد الله على مطلق الحمد فقيّده له ليحجزه عنه ويمنعه منه.
أعرف رجلا منّا تُوُفيت عنه زوجُه.. سألته مرّةً عن حاله فقال
– هاني،
ولمّا قلت له:
– قل الحمد لله،
أجاب:
– علاش تنحمده؟
هؤلاء القوم، أهل غزّة، يستحقّون المدح إذ ينطقون الحمد مليئا، فهم من غير طيننا.
سيلقون الله في الحمد،
وسنلقاه في سؤالنا عنهم،
حمدوا الله في المحنة، ولم نحمده في النعمة.
ثمّ يؤمَر بسور يُضرب بينهم وبيننا لكي لا نرى نضارة حمد لم نختر أن نكون له أهلا.