أدهم شرقاوي
أتساءل كيف يصبرُ أهل غزّة على كل ما أصابهم، كيف يستطيعون أن يتلقوا كلَّ هذه الوحشية وهذا الدَّمار وهذا القتل بكل هذا الإيمان والتسليم!
إنَّ الله تعالى إذا أرادَ أن يستخدمَ أحداً في سبيلهِ هيَّأَه ليكونَ قادراً على القيامِ بمهمَّته!
نحن نقرأُ في كتب السّيرة أنَّ النَّبي ﷺ عندما كان مسترضعاً في ديارِ بني سعد، جاءت الملائكةُ فشقّتْ صدره، وأخرجتْ قلبه، واستخرجتْ منه علقةَ الشّيطان التي تكون في قلوب بني آدم!
هذا القلبُ سينزل عليه القرآن بعد سنين، وستُصَبُّ فيه الآياتُ صبّاً، وصاحبه سيكون النّبيَّ الخاتم، يلزمه بالضرورة قلبٌ لا يُشبه قلوب النّاس!
فاللهُم لا تُؤاخذنا بذنوبنا فإنَّ علقة الشيطان جاثمة في قلوبنا!
وكذلك نحن نقرأُ في كتب الحديث أنَّ أول ما بُدِىءَ به النبيُّ ﷺ من هذا الأمر قبل نزول الوحي الرؤيا الصادقة، فكان يرى الشيء في منامه ثم يُصبحُ فيراه عياناً كأنه فلقُ الصّبح!
وما كانت هذه إلا تهيئة ليألفَ عالماً روحياً علوياً سيكون له به صلة عمَّا قريب!
وكذلك نحن نقرأ في كتب الأدبِ أنَّ العربيَّ كانت له حافظة مذهلة، وذاكرة أخَّاذة، فقد كان أحدهم يسمعُ القصيدة الطويلة فينقلبُ وقد طُبعت في ذاكرته كأنها هو صاحبها!
وما كانت هذه إلا تهيئة من الله لهذه الأمة الأُميَّة من النّاس التي لا تعرفُ القراءة والكتابة إلا ما ندر، وإنَّ التدوين فيها مقارنة بالمشافهة كانت كالشعرة السوداء في جسد الثور الأبيض!
لهذا عندما نزل القرآن الكريم وجدوا في أنفسهم ذاكرة قادرة على حفظه بسهولة، وحتى عندما نُهوا أوَّل الأمر عن تدوين الحديث النبوي الشريف كانوا يحفظونه عن ظهر قلب، فلما حانت لحظة التدوين أملوه على المُدوِّنين بأسانيده ومتونه كأنهم سمعوه للتَّو!
هذا ما خطر على بالي وأنا أتساءل كيف يصبرُ أهل غزّة على كل ما أصابهم، كيف يستطيعون أن يتلقوا كلَّ هذه الوحشية وهذا الدَّمار وهذا القتل بكل هذا الإيمان والتسليم!
أن تجد شخصاً صابراً في هذا الزمن المادي الذي صار فيه لكل شيء ثمن حتى الإنسان هو شيء ملفت، فما بالك من أن تجد مدينةً كلها صابرة، برجالها ونسائها وصبيانها! لا أحد يسخط، لا أحد يتجرأ على الله بكلمة قد تخرج من فم الفاقد، لا ترى إلا الصّبر ولا تسمع إلا الحمد!
لقد أراد الله تعالى أن يستخدمهم فهيَّأ لهم قلوباً لا تُشبه قلوب النّاس في هذا الزمن، نحن نتسخط من الشوكة نُصاب بها كأنها صاروخْ، وهم يصبرون على الصاروخ كأنه شوكة!
نحن نتسخط من البيت الصّغير، والراتب القليل، وهم يحمدون الله على البيت الذي ينزل فوق رؤوسهم، وعلى الرغيف الذي يجدونه بعد فقد، وشربة الماء التي حُرموا منها فسقاهم الله المطر!
الوطن