نصر الدين السويلمي
في يوم 19 جانفي من العام 2000، رحل السياسي الإيطالي ورئيس الوزراء السّابق بتينو كراكسي (Bettino Craxi).
*أيْ نعم.. العديد من رؤساء الوزراء عبر العالم لديهم تاريخ رحيل كما تاريخ ميلاد، ماذا يهمّنا نحن في وفاة كراكسي؟
بلى، يهمّنا كثيرا وجدّا وبرشا..
توفي كراكسي في تونس التي فرّ إليها بعد خضوعه إلى محاكمات واسعة وملاحقته بقضايا متشعّبة، أخطرها علاقته بالمافيا. يكفي القول أنّ كراكسي كان الشخصيّة الأهمّ في واحدة من أكبر القضايا التي عرفتها إيطاليا “عمليّة الأيادي البيضاء” والتي أدّت إلى اعتقال 3000 شخص، وصدور أكثر من 1200 حكم وانتهت بتراجع دراماتيكي في أسهم الحزب الاشتراكي، الذي كان يقوده كراكسي.
قبل أن يفقد الحصانة، حاول كراكسي اللجوء إلى العديد من الدول، كانت آخر محاولة زيارته لصديقه الاشتراكي فرانسوا ميتران في باريس، حينها اعتذر ميتران عن استضافته، وقيل أنه كان وراء فكرة الملاذ التونسي.
إذا ما دخل تونس بالأمر؟
دخل كراكسي إلى تونس في منتصف ماي من العام 1994 عبر عمليّة حرقة فاخرة، لا تسمّى قوارب الموت بل يخت الحياة، عمليّة رتّبتها “جهات” إيطالية انطلاقا من شواطئ إيطاليا، وقادها “الرئيس” بن علي من شواطئ تونس، حتّى أمّن وصول كراكسي ثمّ منحه حق اللجوء السياسي.
*بالشوي.. بالشوي! ما دخل تونس؟ ما دخل بن علي؟ كيف غامر الجنرال؟ أين الإنتربول؟ ما هي الضمانات؟؟؟
أمّا الضمانات فقد وفّرتها باريس، ثمّ واشنطن بأقدار أقل، وسبب ذلك أنّ “عمليّة الأيادي البيضاء” متشعّبة اختلط فيها السياسي بالاقتصادي بالإقليمي بالدولي بالمافيوزي، ومن مصلحة الجميع أن لا يخرج الملفّ عن السيطرة. مع الاعتماد على حجّة المعاملة بالمثل، بما أنّ بن علي كان طلب من إيطاليا تسليم اللاجئين السياسيّين التونسيّين “الإسلاميّين”، الذين يتهمهم بمحاولة قلب نظام الحكم بالقوّة، وطبعا رفض القضاء الإيطالي ذلك.
أمّا لماذا تونس، فلأنّ تونس في ذلك الوقت هي بن علي، والجنرال بن علي مدين لبتينو كراكسي. والأهمّ سيعمل بن علي كلّ ما في وسعه أن لا يقع كراكسي في يد القضاء الإيطالي وتوضع كلّ ملفّاته على الطاولة.
*مدين له بماذا وكيف؟!
انقلاب 7 نوفمبر 1987 في تونس
القصّة طويلة وتحتاج على كتاب ليس لتدوينة، لكن لا بأس من اختصارها، هيا نعود إلى شهر أكتوبر من العام 1999 وما قاله الأدميرال السّابق في البحريّة الإيطاليّة ورئيس جهاز الأمن والاستخبارات العسكريّة بين 1984 و1991، فولفيو مارتيني. في حوار مع جريدة “لا ريبوبليكا” يقول مارتيني أنّ أهمّ العقول المدبّرة لانقلاب 7 نوفمبر 1987 في تونس وأعضاء الخليّة التي أشرفت على تنفيذ الانقلاب هم بينيتو كراكسي وزير خارجيّته جوليو أندريوتي، ورئيس شركة “إيني” المتخصّصة في استخراج النّفط سيسمّي مارتيني، صاحبة الاستثمارات النفطيّة في تونس والجزائر.
يقول مارتيني متحدثاً عن تفاصيل الخطّة: “في بداية العام 1985، اتصل بي رئيس الوزراء بتينو كراكسي. قبل وقت قصير من وصوله إلى الجزائر، حيث التقى بالرئيس الشاذلي بن جديد. قال لي عليك أن تذهب إلى الجزائر وتقابل رئيس مخابراتهم. قررت السفر إلى الجزائر العاصمة. ومنذ ذلك الحين بدأنا حواراً كان له هدف عظيم: منع زعزعة الاستقرار المتزايدة تونس.. منذ تلك اللحظة بدأت عمليّة طويلة في السياسة الخارجيّة، لعبت فيها المخابرات دوراً مهماً للغاية. وفي النّهاية حدّدنا الجنرال بن علي باعتباره الرجل القادر على ضمان الاستقرار في تونس أفضل من بورقيبة. بوصفه كان رئيساً للأجهزة الأمنية، ثمّ كوزير للداخليّة. وفي ليلة السادس من نوفمبر 1987، كان رئيس الوزراء جيوفاني جوريا، ووزير الخارجيّة جوليو أندريوتي، وزعيم الحزب الاشتراكي بتينو كراكسي يتابعون مجريات العمليّة، حتى أصبح زين العابدين بن علي رئيساً لتونس.”
عاش كراكسي في الحمّامات، ومات فيها وحمل أحد الشوارع الجهة اسمه.
ملاحظة: حتى نقف على حقيقة الساحة السياسيّة في إيطاليا، علينا أن ندرك أنّ بتينو كراكسي يعتبر أحد أفضل رؤساء الوزراء الذين مرّوا على إيطاليا، وصاحب سياسات خارجيّة متوازنة والأقرب إلى العرب وإلى الفلسطينيّين. وهو الذي أخبر تونس في الفاتح من أكتوبر 1985 بوجود طائرات حربيّة مجهولة الهويّة، بصدد التزوّد بالوقود فوق البحر المتوسط، وتتجه في طريقها إلى السواحل التونسيّة، بل انحاز كراكسي بقوّة إلى تونس بعد عمليّة حمّام الشطّ، ونتيجة ذلك تعرّض إلى حملة من وزير الدفاع آنذاك سبادوليني وحزبه الجمهوري. ولم تتراجع سياسة كراكسي المؤيّدة إلى القضيّة الفلسطينيّة إلّا بعد اختطاف السفينة الإيطاليّة “أكيلي لاورو” من طرف القيادي في جبهة التحرير الفلسطينيّة أبو العبّاس، ردّاً على الغارة الإسرائيليّة على مقرّ منظّمة التّحرير في تونس.