مقالات

الثورة في زمن القراصنة

نور الدين الغيلوفي

1. ذهبتُ إلى الثورة في عيد ميلادها في شارعها. وافق يومُ 14 جانفي يومَ أحد.. شارع بورقيبة من أوّله إلى آخره “مستّف” بالبوليس.. كأنّ وزارة الداخليّة تحتفل بذكرى تخُصُّها أو كأنّ الأمن جاؤوا يتظاهرون لإحياء الثورة.. فتيان وفتيات يتضاحكون.. يدخّنون السجائر وأيديهم على أسلحتهم وأخرى على هراوات.. يأكلون الخبز بها.. ليسوا متحفّزين إلّا قليلا.. لعلّهم قد علموا أنّ أنصار الثورة أعقل من أن يفتعلوا شغبا أو أن يستفزّوا عابرا.. هؤلاء هم أعقل الناس وأحرصهم على الأمن العام.. ولكنّ المساكين مأمورون و”الخبزة مرّة”.. ربّما كان يودّ أحدهم لو أنّه لا يزال في فراشه نائما بعيدا عن هذا الضجيج.

14 جانفي 2024
14 جانفي 2024

2. على أدراج المسرح البلديّ رجال ونساء متعَبين جاؤوا من سفر بعيد.. شابت وجوهُهُم وهم ينتظرون الثورة، ولمّا أتت جاءها قرصان فاختطفها وتركهم غارقين في بحر انتظار لا ساحل له ولكنّهم لا ييأسون. من قبلّي جاؤوا ومن دوز ومن الحامّة وقابس، ومن تطاوين ومدنين وقفصة والقصرين وسيدي بوزيد ومن المنستير وسوسة وصفاقس والكاف وسليانة وجندوبة ومن بنزرت وباجة.. من كلّ الأنحاء جاؤوا يتعهّدون ثورتهم.

3. أمام مبنى المسرح غير بعيد عن هؤلاء المتعَبين من سفرهم وقف الزعيم الرفيق حمّة الهمّامي رشيقا أنيقا لا يُرى عليه أثر البروليتاريا رغم طاعن سنّه، يدلي بتصريح لإعلاميّة على وجهها لهفةٌ.. استبق الرفيق إلى واجهة المسرح البلديّ يحوزها حتّى لا يحتلّها قوم آخرون يعرفهم ويكرههم ولا يلتقي معهم، ولو قابلهم عند باب جنّة الرضوان لتركها لهم من فيض الكراهية.. غير بعيد عن حمّة حلّ ركب الرفيق الجيلاني جاء، عليه آثار فرح، يحتفل بثورة أضاعها بسلفيته الستالينية المحترقة، وجاءه الرفاق يسلّمون كأنّ نجما حلّ بأرض زرعُها متمسّحون.. وجاء زياد لخضر ولكنّ منجي الرحوي لم يأتِ.

4. جاءت من شارع باريس مظاهرة علا صياحها “الشعب يريد إسقاط الانقلاب” “دستورك ما يُلزمناش هذي ثورة أربعطاش” “الشعب يريد تحرير فلسطين”.
وقف حواريّو حمّة متحفّزين وأخرجوا من وسطهم لافتة وصاحوا “مقاومة مقاومة لا صلح لا مساومة”
مضت بجنبهم المظاهرة الأخرى في صوبِ مستقرّها المعَدِّ لها من الداخليّة.. “خويا يعيشك من هنا.. يعيشك”. يكفي هذه الثورةَ التي نحتفل بذكراها أنّ البوليس تعلّم أن ينطق بمثل هذا الكلام ولا يرفع هراوة ولا يُشهر سلاحًا في وجوه الناس.

5. لم أعتن من المظاهرة بالتفاصيل، غير أنّني رأيت الرفيق حمّة لم يتزحزح عن مكانه كما لو كان حجرًا مغروزا على حافة طريق يراه كلُّ عابر به ولا يرى هو من العابرين أحدا.. هذا الرجل بات عبئا ثقيلا على قانون التطوّر.. يشيد بمقاومة إخوانيّة في فلسطين لا يسمّيها ويلعن مقاومة إخوانيّة في تونس يسمّيها ولا يكلّف نفسه عناء مراجعة نفسه ولو قليلا كما لو أنّه يخشى أن تسقط منه معلومات حفظها من زمن الشباب فيخسر رهانا يبدو أنّه مصرّ على أن يرافقه إلى مدفنه بعد عمر طويل.

6. أمّا عن جبهة الخلاص فما هي أكثر من نهضة نزفتها الأعوام وبعض وجوه مؤمنة بأنّ الديمقراطيّة تبقى هي الخلاص للأوطان الكسيحة، ولا مطمع لعاقل في خلاص دونها.

7. كدت أقول وأنا أرقب المشهد حولي إنّ الثورة تكتب على طرقات العاصمة شهادة وفاتها وتأذن لمريديها باستقبال مراسم عزائهم فيها لولا أنّني لقيت نفسي بين هؤلاء القادمين من الأنحاء البعيدة يسقون بحرصهم أملا يجدّدونه بلقاء بعضهم بعضا عسى أن يأتيَ يوم يغرق فيه القراصنة، تغرقهم أمواج الإرادة الواعية.. وينجو أهل طوفان الأقصى ومُريدوه.

8. لبعض المتشائمين أقول: لا تتشاءموا وأبقوا على عقدة أملكم، فهذا القرصان ما رأى بِركةَ فشلٍ عكست له صورته إلّا هرع إليها فوقع فيها. تتشاءمون لو حالفه إنجاز واحد قد يفتح به له رصيدا.. ولكنّه صفر الرصيد إلّا من قهوة يحسوها عند “كنتوار” تحت رقابة العسس ليقال “يأكل الطعام ويمشي في الأسواق”.. وليس للإنسان إلّا ما سعى.

9. نصيحة أخيرة لأنصار الثورة من أحزاب ومنظّمات وجبهات.. لا تتّحدوا ولا يقترب بعضكم من بعض، ولو كان الأمر لي لدعوتكم إلى حلّ جميع هيئاتكم.. حلّوا أحزابكم واتركوه للشعب واتركوا له الشعب ولا تتدخّلوا.
شجرته غير مثمرة والملح يأكل أصلها..

فلا تستعجلوه.
وإنّ للتاريخ لَحِكْمَة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock