شمس العدل
إلياس خوري
عندما أخرج الإيطالي بازوليني فيلمه “المسيح بحسب إنجيل متّى” (1964)، أصيب المشاهدون الأوروبيون بالذهول، فمسيح بازوليني لم يكن مسيحهم. لقد صُوِّر المسيح في التراث الغربي أشقر الشعر، أبيض البشرة بعينين زرقاوين، أما في فيلم بازوليني فالمسألة اختلفت بشكل جذري. بدا المسيح أشبه بفلاح فلسطيني بقدمين حافيتين وبشرة سمراء وشعر مجعد. أعاد بازوليني يسوع الناصري إلى بلاده، بعدما جرى تغريب صورته لقرون عديدة.
يأخذنا فيلم بازوليني إلى النقاش حول هوية المسيح. وهو نقاش قديم بدأ حين قام الإمبراطور قسطنطين بتنصير الإمبراطورية الرومانية. فدخلت إلى كنيسة الفقراء والذين يتعبدون في الكهوف تقاليد مأخوذة من روما، وبرزت مظاهر الأُبهة والغنى، التي قادت إلى تحويل الكنيسة إلى آلة للسلطة.
المسيحيون تغيروا في الكثير من الأماكن، أما يسوع الناصري فكان ولا يزال شمس العدل، كما يسمونه في صلوات الاحتفال بذكرى الميلاد في الكنيسة الشرقية.
منذ البداية، أي منذ هجومه على الفريسيين في الهيكل، وحتى النهاية عندما ذهب طوعا إلى الصليب، كان المسيح عادلا. غير أنه أزال قسوة العدالة بالمحبة والتعاطف والغفران، فشكل في حياته وثورته على القيم السائدة نموذجا أخلاقيا فريدا في التاريخ.
عندما نقرأ قصص حياته كما رواها الانجيليون الأربعة، نصاب بالذهول، ونسأل كيف استطاع هذا الأنسان الشفاف أن يعيش وسط هذا العالم المليء بالخيانات والخيبات؟
كان المسيح غريبا فاحتضن الغرباء والفقراء والمشردين، وكان ثائرا فانتفض ضد الظلم ودخل القدس كملك راكبا جحشا ابن أتان وهو يعلم أن عرشه سيكون صليبه.
لم يميز بين اليهودي والسامري، وافتتح عجائبه في قانا محولا الماء إلى نبيذ، واصطاد تلامذته من الصيادين الذين كانوا يعملون في بحر الجليل (بحيرة طبريا)، وعبر الحياة كمن يعبر صحراء التيه.
لم يشكو بسبب الفقر أو التعب، هكذا روت المجدلية عنه، ولم ييأس لأن قلوب البشر المحيطين به كانت قاسية، ولم يفارقه إيمانه لحظة بأنه يحمل رسالة عظيمة، ولم يهن أو ينحني للسلطة وهو يتعرض للتعذيب الوحشي.
“هل أنت الملك”، سأله بيلاطس.
“أنت قلت”، أجاب السيد.
كان يسوع الناصري في حضرة الموت، وكان يكفيه أن يتراجع أو يُنكر رسالته كما فعل بطرس،
كي ينجو من الموت، لكنه رفض أن يتراجع.
كان نموذجا لصاحب الرسالة الذي امتزج برسالته فصار هو الرسالة والكلمة التي كانت في البدء، بحسب إنجيل يوحنا.
ولأنه الكلمة والرسالة، فهو يدعونا إلى قراءته وإعادة اكتشافه في سياق الزمن الذي نعيش فيه.
بيت لحم لن تحتفل هذا العام بالميلاد، المدينة التي وُلد فيها السيد محاطا بالرعاة الذين جاءوا إلى المغارة لاستقباله، ألغت مظاهر الاحتفال، وحذت حذوها كل مدن فلسطين والأردن.
قال لنا أبناء المكان المسيحي الأول، أن المسيح قرر هذا العام أن يولد في غزة، وأن ركام المدينة وحطامها صارا مذوده ومغارته.
فهم يسوع الناصري أن قساة القلوب وغلاظ الرقبة من الاسرائيليين والأمريكان والبريطانيين لن تؤثر فيهم دعوته إلى العدل. هؤلاء ارتكبوا الجريمة الأصلية عام 1948، وهم يريدون تكرارها اليوم بشكل أكثر وحشية.
شهوة الدم استحوذت على خيالهم، والرغبة في الانتقام أعمتهم، وانتفاخهم بالقوة جعلهم يطيحون بكل القيم الإنسانية، فتحولوا إلى آلة قتل.
أمام آلة القتل التي تطحن المدينة الشهيدة، تقف غزة بشموخ وأسى، شموخ من يعرف أنه لن يستسلم، وأسى من يشاهد أشلاءه في كل مكان.
المسيح يولد هذا العام في غزة، فماذا نستطيع أن نفعل؟
لن يكون في مقدورنا الذهاب لزيارته حاملين الهدايا، فكل الطرقات إليه مقفلة بالحديد والنار.
كما لن يكون في مقدورنا أن نوقف هذه المجزرة، لأن مخاطبة القتلة بلغة العقل والعدل والحكمة صارت مستحيلة.
نستطيع أن نتضامن مع غزة بوسائل عديدة، تكون أولها بإيقاف هذا البذخ اللامبالي الذي نراه هنا في بيروت، فالمسيح وأمه في حالة حداد ولا يصح أن نحتقر حزنهما وخوفهما على الأطفال الذين يموتون بالآلاف.
هذا البذخ يستفز ضمائرنا ولم يعد مقبولا في بيروت، ليس فقط تضامنا مع غزة، بل أيضا تضامنا مع بيروت الثكلى التي أفقروها.
أما في الغرب فإن أي نداء للحكومات المتورطة في حمى الإسلاموفوبيا والفلسطينوفوبيا لن يجدي. كلامنا ودعوتنا موجهين إلى الشباب الذين خرجوا بالألوف في ميادين لندن وباريس وواشنطن و …، كي يخرجوا إلى الشوارع ليلة الميلاد. فيكون الاحتفال دعوة إلى إيقاف المجزرة في أرض المسيح.
لا أدري بأي كلمات نستطيع أن نخاطب السيد بعد أكثر من ألفي سنة على ولادته. هل نقول له إن قايين يحتل الأرض ويملؤها دما، أم نقول إن الصليب لا يزال مرفوعا في القدس؟