مقالات

سؤال الحرية في كتابات الشيخ راشد الغنوشي والدكتور منصف المرزوقي (3)

مسألة الحرية في الفكر العربي المعاصر

شاكر الحوكي

كيف ينظر راشد الغنوشي الى مسألة الحرية؟ وأين يبرز التباين مع منصف المرزوقي ؟

يتضح التباين بين الغنوشي والمرزوقي من خلال مستويات عدة: ذلك أن مرجعية الحرية الحقيقية، بالنسبة إلى الغنوشي، لا يمكن العثور عليها إلا في الإسلام. وهذا الموقف عادة ما يأتي، في كتاباته، متزامنا مع نسف أسس المرجعية الغربية؛ والمدهش أن الغنوشي يفعل ذلك مستأنسا بالفكر الغربي نفسه. فهو يستأنس بالنظرية الماركسية في نقد الحريات، بوصفها حريات شكلية يعوزها الأساس الفكري المتين، فضلا عن كونها ترجمة لمصالح البرجوازية وأداة من أدوات الرأسمالية والمركزية الغربية، قبل أن يعود إلى النظرية الماركسية نفسها ويتولاها بالنقد والتشكيك. والنتيجة أن هذه الحقوق في مجملها مزيفة ومخادعة فرضت على الأمم والشعوب بفعل امتلاك القوة، وبحكم احتكارها لوسائل الثروة والإعلام والثقافة.

راشد الغنوشي
راشد الغنوشي

يقول الغنوشي في هذا الخصوص “إن السند الأساسي للحريات السياسية والاجتماعية في الغرب الرأسمالي أو الاشتراكي ليس الإيمان بالإنسان فردا أو جماعة كقيمة مطلقة تمثل مصدرا لحقوق وحريات ، فكل ما حبّر في ذلك لا يعدو حلما رومنطقيا لما يسمى بعصر النهضة الأوروبية. إن الفكر الغربي في جوهره واتجاهه العام لا يقر بغير المادة وحركتها مما يجعل هذا الكائن المسمى إنسانا لا يعدو أن يكون لحظة متقدمة في حركة تطور المادة، انه ظاهرة وليس ماهية ، والنتيجة أن المحدد الأساسي بل الوحيد للحريات والحقوق لا الله ولا الطبيعة الإنسانية ولا الحق الأزلي- كما ذكر انقلز- إنما هو اله آخر يسمى موازين القوى…القوة والسيطرة والثروة …ذلك معبود الغرب ومصدر قيمه. وعبثا يحاول المستضعفون والمعذبون في الأرض أن يقنعوا جلاديهم بمختلف أسمائهم أن يجودوا عليهم باسم الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ومختلف المواثيق الدولية وبيانات الأمميات ببعض حق. فكل ذلك محض خداع للنفس”.

لا يتوقف نقد الغنوشي للحرية على وصفها بالشكلية واعتبارها إفرازا طبيعيا لموازين القوى الدولية، وهو نقد كانت المدرسة الماركسية والانتربولوجية قد شددت عليه طويلا، ولكنه ينسف أسسها الطبيعية، كما بلورها جون لوك ويقوض أسسها التعاقدية كما نظر لها جون جاك روسو. فالغنوشي يرفض أن تكون فكرة القانون الطبيعي مصدرا أو أساسا للحرية لأن طبيعة الإنسان لا ” تنبثق عنها بذاتها حقوق” . فماذا يعني القانون الطبيعي؟ يتساءل الشيخ؟ إنه “ليس له مفهوم محدد، بل هو كالإسفنجة المطاطة يمكن أن تشكله وتمدده وتؤوله كما تشاء”، بينما الشريعة، وهي المقابل الموضوعي لفكرة القانون الطبيعي في الفلسفة الغربية، تصلح أن تكون “إطارا محددا يترك للعقل البشري مساحة واسعة للتصرف ، لكنه يضع حدودا وضوابط ، هي حدود الله”.

وهنا يأتي التصور الإسلامي للحرية بوصفه البديل الأمثل في فكر الغنوشي؛ فهو يقوم على فكرة رئيسية تتمثل في الاستخلاف. فالاستخلاف هو أساس الحريات. ويعني “أن الإنسان في الإسلام مستخلف عن الله وضمن عهد الاستخلاف –الشريعة الإسلامية– تتنزل جملة حقوقه وواجباته. ويتم التوفيق والتلازم بين الحقوق الفردية والمصلحة العامة، إذ قد تضمن كل حق للفرد حقا لله، أي حقا للجماعة، مع أولوية حق الجماعة كلما حدث التصادم”.

ويترتب عن الاستخلاف مفهوم محددا للحرية يقوم على الالتزام والمسؤولية، وهذا يعني أن الحرية “ليست إذنا للناس أن يفعلوا ما يشاؤون” أو “إذنا بالإباحة”، بل إنها “ممارسة إيجابية” تقتضي “أن نفعل الواجب طوعا… بإتيان الأمر واجتناب النهي”، علما وأن الشيخ يميز هنا بين ثلاثة أبعاد للحرية؛ فهناك الحرية بالمعنى التكويني، بما هي القدرة أو الفطرة على إتيان الخير أو الشر. وهناك الحرية بالمعنى الأخلاقي، وبهذا المعنى فهي أمانة”؛ إنها “الاستعانة بالله على السير في طريق الحق، هي فعل الواجب إتيانا للأمر وتجنبا لما حرم الله”. وهناك الحرية بالمعنى التشريعي بوصفها “غاية بعثة الرسل، إذ جاءت الشريعة لحفظ مصالح العباد التي تشكل بدورها مقدمة لحماية الحريات على أساس نظرية المقاصد” . وهنا تحديدا – أي على مستوى المعنى التشريعي والأخلاقي- يحضر التكليف بوصفه شرطا لممارسة الحرية ضمن الوعي والمسؤولية التي تأخذ بعين الاعتبار “إثبات الأمر واجتناب النهي”. وفي كل الأحوال تبدو المسؤولية حاضرة في مستوى كل معاني الحرية وأبعادها. وهذه فكرة مركزية في الفكر الإسلامي المعاصر مشكّلة نقطة الخلاف الأساسية بين التصور الإسلامي ونظرية القانون الطبيعي. وضمن هذا المقترب تصبح الحرية محصلة التوفيق بين الشرع والعقل.

كما يترتب عن نظرية الاستخلاف وجود أكثر من شكل للتعاقد (أحدهما يؤسس للآخر)، وهذا التعاقد هو الأساس الذي تقوم عليه فلسفة الحقوق والحريات في الإسلام. وهو ما يعني رفضا لنظرية التعاقد، التي بلورها روسو في كتابه العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين، بوصفها أساسا لحماية الحريات؛ إذ هناك التعاقد الأولي بين العبد وخالقه، “أي: أن يعرف الإنسان ربه ويعبده ويعدل مع خلقه بما يحرر الإنسان من العنصرية والأنانية المشطة الباعثة على الظلم ويرسخ فيه شعور القرب من الآخر وشريكه في الأصل الواحد وفي التمتع بخيرات العالم وعبادة الله رب العالمين”. وهناك التعاقد الاجتماعي المنبثق عن التعاقد الأولي داخل المجتمع ومداره “إنشاء نظام اجتماعي مفتوح لكل البشر و يتساوى فيه الجميع”. وهناك التعاقد السياسي الذي يحصل بين الأفراد والدولة والذي بدوره ينبثق عنه “أنواع من التعاقدات الأخرى في مستوى النقابات، وفي مستوى الجمعيات الخيرية، والهيئات السياسية، تقوم كلها على تعاقد بين المنتمين إليها لتحصيل منافع سواء أكانت لهم أو للجماعة”.

هكذا يأخذنا الغنوشي بعيدا عن المفاهيم الغربية التي تعود عليها القارئ العربي الذي نشأ على أدبيات الفكر الغربي المعاصر، ويأخذنا إلى عصر آخر يحضر فيه “الله” بوصفه محور الكون ومصدر المعرفة ويتراجع فيه الإنسان والعقل ؛ ذلك أن الشيخ يعتبر أن العقل “لا يملك القدرة على الاستقلال بتنظيم الحياة و توجيه الحرية”، بل أنه يذهب إلى حد اعتبار “أن هذا الاستقلال يمثل خطرا محققا على حرية الإنسان تجعله معرضا للوقوع في عبودية الشهوات والشيطان” ، وحدها “العبودية لله وحده هي الأساس والركن الركين للحقوق والحريات”، وهي حرية لا تتبدل بحكم المصالح كما هو “شأن تصور الحرية في الغرب المنبثقة عن طبيعة الإنسان، حيث تنطلق الأهواء الفردية والجماعية بعيدا عن أي موجه أو ضابط أخلاقي”.

وبعيدا عن مسألة المعنى -أي معنى الحرية- الذي لم يعثر عليه الغنوشي إلا في الإسلام، وذلك خلافا للبحث الفلسفي المجرد في الحرية “الذي كان بلا طائل… فقد ساهم في إشاعة مناخات القلق واللامبالاة والنزعات العدمية”، والنتيجة “هي العبث والانتحار”؛ ذلك أن الإنسان هناك لم يكن يدري “ما يفعل بحريته في غياب نور يهديه”، فإن “الهدي الإلهي” يصبح شرطا من شروط تحقيق الحرية الحقيقية (أو حرية المعنى)، بما هي “كدح في طريق العبودية وليست انطلاقا حيوانيا”، والمفارقة هنا التي يلح عليها الشيخ هي أن الإنسان “بقدر انخراطه في عبادة ربه بقدر ما يتحقق به من حرية”.

إن محاولة تأسيس الحرية على أساس المرجعية الإسلامية أخذت الغنوشي إلى اعتماد مقاربة ثلاثية الأبعاد.
ويتمثل البعد الأول في نسف الحرية في الثقافة الغربية ونقدها من خلال مقولات الفكر الغربي نفسه، والبعد الثاني، يتمثل في تقديم الإسلام بوصفه البديل الأمثل لممارسة الحرية، أما البعد الثالث، فيتمثل في محاولة التوفيق بين الإسلام والحريات عموما بما يتماشى مع قيم الإسلام ولكن ضمن رؤية اجتهادية وقراءة منفتحة للموروث الإسلامي وهنا تحديدا تتجلى مساهمة الغنوشي في تأصيل الحرية في الثقافة العربية الإسلامية وتوطينها ولكنها تبقى مكبّلة بقيود ثوابت الإسلام الأساسية.

يتبع ..

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock