الخبز في زمان الاشتهاء
نور الدين الغيلوفي
1. لم نكن نعرف الخبز طعامًا ليومنا.. كانت حياتنا كفافا يكفينا، وكان الخبز ترفا لا نطلبه.. عيشنا كان يحوم حول القمح والشعير تشتقّ منهما أمّي ما تعرفه من وجبات طعامنا.. مع بعض بقول لا بدّ منها لاستواء الطعام.
2. أذكر في أيّام الحصاد أنّ القمح كان يُحصَد من الحقل فلا يبيت إلّا في البطون.. تُنجَز الأعمال كلُّها في وقت وجيز، تحصد أمّي كميةً من الزرع تجمَعُها في مكان تُعدُّهُ لها على هامش البيدر، تدقّها وتصفّيها وترحيها وتغربلها و”تكسكسها” وتطبخها.. فنأكل وننام شِباعًا.. لنسرح مع أحلام الصبا حتّى نفيق في صباح الغد.
3. القمح والشعير كانا مُنْتَجَ أيدينا.. نزرع في موعد الزرع ونحصد في وقت الحصاد.. وكان قمحنا وشعيرنا أنواعا شتّى يعرفها أهلي ويختارون منها ما يزرعون حسب التربة التي يزرعون فيها.. كانوا خبراء بمنابت الزرع وخبراء في مواعيد نزول السماء.. يزرعون وينتظرون.. وقلّما كانوا يُخذَلون من خبرة.
4. لم يكن بيتنا يخلو من قمح ولا من شعير، فلم نعرف، طولَ حياتنا، جوعا، ولا وجدنا بنا إلى الدولة حاجة. كنّا مستطيعين بأيدينا ولم نكن نعرف الدولة، و لا هي كانت تعرفنا.. كنّا مشمولين بسجلّات إحصائها لا شكّ، تستعملها لجمع هبات الهيئات الدوليّة ولا تجود علينا منها إلّا بمقدار ما يبقينا صالحين لإحصاء.. يدرّ عليها.
5. القمح كان قاعدة غذائنا.. تصنع منه أمّي أنواع الوجبات.
“خبز السوق” كان يأتينا به جدّي حين يسافر إلى الحامّة، أو أبي. كان أحدهما إذا سافر لقضاء شأن من شؤون العائلة، لسنّ الجِلام عند الحدّاد لأجل جزّ الغنم في موعد الجزّ، مثلا، أو لسنّ مناجل الحصاد عند موسم الحصاد، أو لاستخراج وثائق من البلدية أو المعتمديّة.. أو لشراء ثياب لنا بمناسبة ما.
6. كان خبر ذهاب أبي، وكلاهما كانا أبي، إلى الحامّة بشارة لي تشبه بشارة العيد أظلّ أنتظر عودته بخبز السوق. كانت القفّة يعود بها لا تحوي أكثر من خبزتين إلّا قليلا.. وكانوا يوزّعون علينا قطعا من الخبز نقبل عليها كما نقبل على فاكهة نادرة، نأكلها بشراهة لا يزال يتحلّب لها الريق بالذاكرة. ولا أزال أذكر العلاقة الوثيقة التي علّمونا نعقدها بين الخبز والبرتقال في وقت البرتقال. كنت أخلو بنصيبي من الخبز “أعدّيه” بحبة برتقال واحدة على مهل، وقد تعلّمت العدل من توزيع الخبز على “أبراج” البرتقالة بالتساوي.. فقد كنت أحرص على التسوية بينهما (الخبز والبرتقال) في فمي حتّى يبقيا على تمازج طعمهما.. كان الخبز والبرتقال حصّةً لتدريب المذاق سنويّةً.. أقضّيها بنجاح.
7. كان الخبز فاكهة. لم نتعلم أكله لسدّ الجوع.. كنّا نأكله على شبع، أو نجني منه طعما نادرا.. وكانت سفرة جدّي أو أبي قرينة طعم الخبز نُعدّ له اشتهاءً على موقد من انتظار.
كان خبزنا “الكسرة” تعدّها أمّي من الألف إلى الياء.. والكسرة عند أمّي أصناف.. ولم نكن نحتاج إلى خبز السوق الذي لم يكن مصنَّفًا.. كان ترفا غيرَ واجب، لا نجوع إذا غاب ولا نشبع إذا حضر.. ولا نتذكّره إلّا عندما يسافر أحد.
8. اليوم صارت داخل السوق بيوتُنا.. وبتنا حلقة من حلقاته.. لا يشبعنا سوى خبزه.. غير أنّ السوق صار بلا خبز…
المخابز تأبى أن تعدّ الخبزَ لنا..
ولا دولة لنا تدفع عنّا غائلة جوع لا يسدّه غيرُ الخبز.
وأمّي لم تعد لها طاقة
بألِفِ الكسرة القديمة
ولا بيائها.