“نِعْمة ربّي”
عبد اللطيف علوي
هناك، حيث ولدت وتربّيت، في ريفنا البدويّ الأصيل، كان لدينا تعظيم عجيب “للكٍسْرَهْ”، الخبز بلغة أهل المدن وما جاورها، وكنّا نسمّيها “نِعمة ربّي”. نعرف أنّ كلّ ما لدينا وما فينا وما حولنا من نعم اللّه تعالى ولم نكن غافلين عن ذلك، ولكنّ تخصيص “الكِسره” بالذّات بهذا الاسم له مدلول عظيم من الحمد والشّكر!
كان يمكن أن نبذّر في أيّ شيء، إلاّ في “نعمة ربّي!” تعدّ لنا أمّهاتنا منها على قدر ما نحتاج بميزان عجيب، فلا تنقص ولا تزيد، وأمّا الفتات المتبقّي فيجمع طعاما للدّجاج أو يغمس في المرق ويقدّم عشاء للكلاب! وما يبيت منها، وهذا نادرا ما يحدث!، يُلَفّ في قطعة من القماش النّظيف في طبقات لليوم الموالي، ولا شيء يضيع!
الجميع طبعا يعرفون كيف تربّينا على أن نقبّل قطعة الخبز إذا وجدناها في الطّريق، ونضعها جانبا، كأنّنا نعتذر لها فعلا خجلين ونستغفر اللّه لنا ولمن ألقاها هكذا دون تعظيم لنعمة ربّي!
كان لدينا إحساس حقيقيّ فطريّ، بأنّنا إذا فرّطنا في “نعمة ربّي” أو أهنّاها فذلك نوع من الكفر، وبأنّ اللّه سيرفع تلك النّعمة عاجلا ويأتي بعدها الجوع.
على ذلك تربّيت، أُجَنّ حين يُترَك الخبز على الطّاولة وييبس، وأشعر بوجع حقيقيّ كلّما رأيت الأكياس يتكدّس فيها الخبز اليابس، ليكون مصيره الإتلاف! وقد خضت من أجل ذلك حربا في العائلة، وكسبتها بحمد اللّه! وليس للأمر علاقة بكوني لا أحبّ التّبذير، فأنا فعلا أمقت التّبذير، ولكنّي مع ذلك قد أكون مبذّرا في أشياء أخرى عن غفلة أو لامبالاة! إلاّ في “نعمة ربّي!” الأمر يصبح عندي ذا قداسة أتعبتني وأتعبت من حولي!
لماذا أقول هذا الكلام؟!
هذا الحديث له علاقة بصفوف الغبن والمذلّة أمام المخابز، صفوف مهينة لشعب كان فخره الأكبر أنّه وقف ذات يوم في صفوف الحرّية الطّويلة أمام صناديق الاقتراع!
طبعا جميعنا نعرف الأسباب الموضوعية الماليّة والاقتصادية لهذه الأزمة، ونعرف مسؤوليّة الدّولة عنها، وكلّ ذلك صحيح تماما ولا يخفى عليّ!
ولكنّي، فوق ذلك، أشعر بأنّ الأمر أعمق من ذلك وأخطر بكثير، لأنّنا فعلا لم نقدّر “نعمة ربّي” فيما مضى، ونحن فعلا من أكثر شعوب الأرض إتلافا للخبز وللطّعام عموما في المزابل!
نحن كفرنا بالنّعمتين:
نعمة ربّي الأولى: الخبز!
ونعمة ربّي الثّانية: الحرّيّة!
فكان عقاب اللّه عاجلا غير آجل: أن حرمنا منهما معا.
أستغفر اللّه العليّ العظيم وأتوب إليه.