“يا نايب نحّ الغنّوشي * ما خلطتش نشري علّوشي”
الخال عمار جماعي
في بلاغة شعار: “يا نايب نحّ الغنّوشي * ما خلطتش نشري علّوشي”
قد -والله- سمعنا الهتاف الذي يترنّم بقول: “يا نايب نحّي الغنوشي، ما خلطتش نشري علوشي” فبُعلت في شأن بلاغة تأخذ بالألباب وتذهب بالهيبة حتى هممت بالرّداء لأخرّقه. وقد تعجّبت أيّما تعجّب ممّا وجدناه عند بعض معارفنا الثّقات من هزءٍ وضيقٍ بما جيء من تلك الفاصلة السجعيّة! وإنّي بإذن المولى شارحها ومؤوّلها فقد أعيت أهل الهتاف بعدها أن يأتوا بمثلها.
اعلم -يا رعاك الله- أنّ النّداء في التهتيف -بمعني فعل الهتاف وطلب معاودته- مهمّ مقامه بمنزلة “يا دار عبلة بالجواء” وأمّا المنادى “النايب” (وهو تحريف عامّي للفظ نائب) فذاك تخفيف القصد منه استحضار المعنيّ بالهتاف.
فإذا سمع لبّى وأنصت أين منه إنصات “المحلّق” لأعشى قيس – تلعب انت؟! -.. فإذا تمّ ذلك أردفته صاحبته – كبت الله حُسّادها الذين نعتوها ب”ذيل البقرة”! – بفعل أمر صريح “نحّي” (وهي تعني وضعه في ناحية قريبة المعني من “ارمه خارجا”).. وهذا ما سمّاه الجاحظ “البلاغة الإيجاز” إذ ضمّنت في فعل الأمر “نحّي” معنى التّنحّي من الطريق. وقد ورد في الأثر استحسان إماطة الأذى عن الطريق.
ثمّ يأتي الإسم العلم “الغنّوشي” وليس هذا اعتباطا بل هو انتقاء لاسم فيه غُنّه وهذا ملائم للتهتيف. فماذا لو اختارت اسمه الأوّل “راشد”.. ؟! فليس في العربية ما به تسجع إلاّ “حاشد” أو “ناشد” وهذا يجافي المقصود. وكل هذا عجب في عجب.. فانظروا !
الفاصلة السجعية الثانية أعجب. فقولها “ما خلطش” في صيغة منفيّة ولاحقة للتوكيد “طش” محدّدٌ لتصاعد الألم الذي “طشّ المواطن طشيشا” (ويجوز فيها طشّا!) بمعنى أنّك يا مواطن -والقول مقصود به النائب أن يسمعه- غير مستطيع. والاستطاعة كما نعلم مبحث اعتزالي عظيم فلاشكّ عندنا أنّ الهاتفة -لا عزلها الله- قد اطلعت على دقائقه.
“نشري” هو المنفي بالتعيين أي أنّ النفي وقع عليه بنفي سابق. وهنا ندخل فعلا في عمق الدلالة. إسألني كيف؟.. لم تستعمل -أدام الله عليها ذكاءها- فعل “ناخذ” رغم محافظته علي الوزن لأنّ ذلك يناقض الإرادة الحرّة: فالأخذ هو أن تمسك بالشيء دون تملّكه بالضرورة أمّا “نشري” فنحن بالضبط في “رحبة الغنم”.. أرأيت الفرق؟! فسبحان الذي ألهمها صوابا.
التقفية بـ”علّوشي” وهو تركيب إضافة بياء النسبة قد أتى علي المعنى السابق فأنهاه وأتمّه. أي أن العلوش سيصبح ملكي وفي يدي.. وهكذا اكتملت الصورة البلاغية في غير خلل ولا نقص ولا تزيّد حتى نعلم أنّ “الخيال الدستوري” وفيّ لتقاليد البلاغات الأولى من نوع “الله وحد الله وحد بن علي ما كيفو حدّ”.. وهذه لو تعلمون “سخطة بلاغية” فاتت الجرجاني في “أسرار البلاغة”!
وكان يمكن أن نتبسّط في الأمر أكثر ولكنّنا أتينا به على قدر الحاجة..
“المُضبّع البلاغي” كتاب: “روث البقرة”