مقالات

أنا لا أسامح

كمال الشارني 

أسمع، نور الدين يا صاحبي، أيام 14 و15 و16 جانفي 1986، أنا كنت وقتها صغيرا ونحيلا مثل شبح وعاشقا منذورا للخيبة العاطفية الأزلية، وكان ثلاثة أعوان شرطة يتداولون على ضربي بمتعة على ساقي بسوط مصنوع من ذنب “عاصي” (ثور) في مركز الشرطة في مدينة تاجروين، كان أحدهم نائب رئيس المركز الذي يعد لي بيتا لكي أساعد ابنه في النجاح في الباكالوريا، يشتري لنا دخان “الروايال” وهو يعود سكرانا كل مرة، كنا نستشعر المرارة في تبغه لاعتقادي أنا وابنه أنه افتكه من أحد الباعة،

كنت أعود حافيا في المدرج السفلي الشاق نحو الجيول تحت مستوى الأرض “شد سباطك في فمك وحط إيدك على الحيط” قال لي عون الشرطة، هو لم يكن سباطي بل حذاء صديقي وأخي محمد النموشي الذي لبسته على عجل عندما داهم عشرات أعوان الشرطة مبيت معهد تاجروين و”مشت فينا، نحن والحشاشة” يا صاحبي، إنما كنت أمشي على رؤوس أصابع ساقي حذر “وجع كف الساق المضرج بالدم” متكئا على الجدار مثل معاق، تراني أسامحهم أم تراني أنسى؟ غاضني أن محمد صديقي لم يفرح بحذائه الذي كان هدية فاخرة له من أقاربه في فرنسا، قضيت به عامين بين سجني الكاف والقصرين لكني لم ألبسه إلا للخروج إلى الزيارات النادرة أو الذهاب إلى المستشفى لاقتلاع أحد أضراسي، عمري عشرين وشوية، يتداول الفراملية على انتزاع أضراسي بدل علاجها لأني مربوط، كانت الحال شتاء في القصرين وكنت مقيدا من يدي اليمنى في سخان الغرفة وهو يقتلع ضرسي بلا بنج، والله دخت من الوجع وعندما استعدت الوعي، كان ثمة من يصب الماء من دبوزة على وجهي وكنت أنظر إلى قطة سوداء تماما من شباك الغرفة، أعطاني فاصمة لوضعها في حفرة الضرس وقال لي: “منين ليك الصباط هذا؟”، وددت لو قلت له: “من أختك”، “حشمت” لكني لم أنسه أبدا، تنسى أنت؟ تسامحهم؟

لم أنس مفتش الشرطة من أهلي في دشرة نبر الذي تطوع بحماس لنقلي بسيارته السخيفة كاترال من الجيول في مركز شرطة بنعنين إلى السجن المدني صباح يوم 17 جانفي 1986، كان معه زميل له وكان يلتفت إلي ليضربني وأنا مقيد في المقعد الخلفي على وجهي بالبونية: “شبعتوا؟ وليتوا معارضين؟ طحانة؟”، كم كان بودي أن أسأل روحه اليوم: “لأي نظام كنت تطحن الطحين وتأكل من لحم شباب أهلك الحي الواعي الذي كان يجب أن تفتخر بهم؟”أنا أدركته في أيامه الأخيرة قبل أن يحوله السرطان إلى كتلة عفن بشري في آلام مبرحة لا تتوقف نهارا ولا ليلا يتمنى الموت ولا يراه، كانت رائحة الموت غير القابل للإخفاء والتعفن البشري تملأ الرواق المؤدي إلى غرفته، وجد من الشجاعة ما يكفي ليقول لي: “مش نا ولد خالي، لم يكن بيني وبينك مشكل شخصي، لم يكن هناك حل آخر”، ثم أشاح بوجهه نحو الشباك، لم يعتذر ولم يفكر أصلا في ذلك، لم يكن هناك مجال للتشفي في العذاب، فأنا أعرفه قبله على أيدي زملائه ولا أحبه لأحد، إنما لم أسامح، أخذ ملفه إلى الله العادل، سوف نتحدث هناك،

قاضي التحقيق الذي نزعت أمامه “سباط صديقي محمد النموشي” الفرنسي بعد أن انتزعوا مني خيطيه لكي أريه آثار التعذيب، قال لي بقرف: “لم عليّ خراك، يكذبوا عليك البوليسية؟ تعترف عندهم وتجيني أنا وتنكر؟ أيا برا بات عندهم وغدوة تمشي لعبد ربه توه ينظم لك كل شيء”، عبد ربه كان حذّر آخر من تحمس لحمايتي من أخوالي، شيوخ شوارنية دير الكاف وسركونة من ذوي الكبرياء ومقام سركونة العزلة والمنعة وبلد العسل والفرائس: “المرة الجاية نرجعهولك معاق” كان عمري 17 عاما وكنت متمردا محملا بكل أشكال الكره للدولة وأعوانها وكان وراءنا أكثر من ألف هكتار نعيش عليها ونحميها بالمقرون والرجولة والعائلة، صادرتها الدولة وحولت نصفها إلى غابات صنوبر بعد أكثر من قرن من اجتهاد أجدادي في تنظيفها من الصنوبر والضرو وزراعتها ثم أعادت توزيع الباقي على جماعتها، عبد ربه كان في الشرطة العدلية ولم يكن يهتم بما قد أقول عن الصنوبر أو الأرض أو صيد النحل والعسل أو حتى الحرية والكرامة التي يكرههما، يضرب ضحيته حتى يصل به إلى حافة الموت ثم ينتظر منه أن يروي قصة حياته من تلقاء نفسه، أول الليل، نجح أبي في معرفة مكان إيقافي فجلب لي على عجل آخر طبق عشاء يمكن العثور عليه في شوارع مدينة الكاف الشريرة، طبق لوبيا في صحن ألومنيوم مع لحم بقر قديم، كان عون الأمن يتلمظ آخر بقايا اللحم وهو يمد لي ما بقي من الطبق، لم تكن لي خواطر لأكل ما جلبه أبي وقضيت الليل في تخيل عذابات عبد ربه قبل عذابات الله ثم أمضيت يا نور الدين يا صاحبي بالدموع على المحاضر، هل أسامحهم؟

أول أيامي في حبس الكاف، كان ثمة عون سجون يأخذ من أهلي رشوة جزيلة، زواولة وإباهيل، مقابل تسريب كراساتي وكتبي لامتحان الباكالوريا وأشياء بسيطة لتصل إلي، لم يصلني منها شيء إلا بجهود شخص آخر بعد أكثر من شهر ونصف، “السبتي” لن أسامحك أمام الله، أيا كانت الأشياء التي فعلتها وتعتقد أنها طيبة لأنك خدعت أمي وأخذت منها ما تركه المحامي المحتال من رهن مصوغ عرسها في محاولتها الأخيرة لإنقاذ بكرها، لقد رأيتها بلا قرطي أذنيها الفضيين الكبيرين وعرفت أنك أنفقت ثمنهما في الشراب، يجب أن تخلد في الجحيم، لقد خصصت لك فصلا كاملا في رواية قادمة، قاتلا غبيا حتى في أحلام زملائك من الجلادين،

تصفية الحساب والتركة الحزينة لم ينته، لا أحد أخذ حقه، لا مجرم وقف باكيا مجهزا نفسه لعشر ما عانيناه، ثمة شيء خاطئ في هذا الوطن الكئيب الذي يمشي مائلا، ليس فقط بسبب غياب العدالة وعدم تصفية المظالم بل بسبب استمرارها، حيث الظالم مطمئن إلى أنه مثل من سبقه، لن يحاسبه أحد، لذلك يجب أن نكتب، أن نستمر في التذكر وأن لا ننسى لأن هذه الأشياء السيئة تستمر بالفداحة نفسها.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock