رغم أنف المتنبّي
نور الدين الغيلوفي
قول في الشعر والنساء
إذَا اشْتَبَهَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ *** تَبَيَّنَ مَن بَكَى مِمَّن تَبَاكَى
– المتنبّي ذاتُه –
1. ليس هذا نصّا في النقد، هذا انفعال بما أقرأ وأسمع وأرى، وليس مع أحد ضدّ أحد.. هو قول جاد به نظر قديم وجاءت به الأيّام.
2. أنا أعتقد في أنّ النساء نظيرات الرجال، لا فرق بينهنّ وبينهم إلّا في صيغ البيولوجيا أوكلت إلى كلّ منهما وظيفة في الطبيعة لا تتمّ بدونه. وفي صيغ اللغة جعلت لكلّ منهما مقاما منها يرقى إليه بكسبه. وما يستطيعه في الإبداع هؤلاء تستطيعه أولئك، لا فرق.
3. ومثلما يعجبني عنترة العبسيّ الشاعر تعجبني الخنساء السلميّة الشاعرة.. ومثلما أقرأ السياب أقرأ نازك الملائكة، وأستفيد من نقدها الذي لم يتعدَّ هو إليه.. ويعجبني ما كتبته فدوى طوقان كما لا يعجبني شقيقُها إبراهيم في ما كتب. وقد بلغت أجاثا كريستي في كتابة الرواية البوليسيّة مقاما رفيعا قصر دونه كثير من نظرائها من الرجال.
والمرأة التي قيل إنها قالت لابنها: “ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال” هي، بما قالت، أولى بالشعر من ابنها الذي بكى فأنكرت عليه بكاءه.
4. ابك مثل النساء؟
ألم تر كيف أنّ الشعر قال في دموع النساء فأسال الدموع بما قال؟ ولولا دموع النساء ما دمعت قصائد الشعراء فأثارت بدمعها القرّاء.
وقد استولى نزار قباني، قاتله الله، على المعنى حين قال:
بعض النساء وجوههنّ جميلة
وتصير أجمل.. عندما يبكينا.
5. الشعر ليس جنسًا ذكوريّا.. الشعر منجَز لغويّ إنسانيّ ولا فرق بين شعر وشعر إلّا ما مازته ذائقة الجمال وبيّنه غربال النقد.. والغرابيل في النقد متعدّدة لا تميز نساءً من رجال.
6. في الأدب، لست أميل إلى مفهوم “نسويّ”، لأنّني أرى أنّ النسوية لا معنى لها إلّا في استدعاء الذكوريّة.. والتأكيد على الثنائية، في فهمي، يتضمّن صراعا لست أميل إلى القول به.
ربما كان لخطاب ” النسوية” ما يبرّره في لحظة ما من التاريخ، أمّا الآن، فما عاد من معنى لإفراد النساء بأنواع في الأدب مخصوصة. عبارة “نسوي”، في فهمي، لا تعبّر عن خصوصيّة بقدرما تستبطن ميزًا، كأنّ طريقا تُشقّ لها موازية لطريق الرجل، لا تلتقيان.. وفي ذلك مَيزٌ.
7. لو كان الشعر بشرا لكان امرأة.. دعك من حضور المرأة في قصائد الشعراء حبّا وعشقا وشوقا وذكرى وانتظارا ولوعة وصبابةً وصورة تشرب فيوض الجمال وتعطف قلوبا تتتبّع آثاره عليها. لولا أنّ المرأة شِعر لما استولت على أغلب الشعر. وشعراء العرب القدامى كانوا يبدؤون إحرام القصيدة بطواف القدوم، وطوافُ القدوم، في الشعر، على الحبيبة، كأنّ الشاعر يستأذن مملكة الجمال قبل أن يلج عالم الجلال.. جلال الشعر والمعنى.
8. المرأة، في فهمي، (نظير/ة) الرجل، زائد قيمة الجمال المضافة. لقد استولت النساء على ما في الطبيعة من جمال حتى صار كلّ جميل يحيل عليها.. الجمال غاية يُسعى إليها وليس وظيفة يُتوسَّل بها.
#كيفيكونالجمال_وظيفيّا؟
9. أرأيت ذا عاهة كيف يعرض عاهته يتوسّل بها ويتسوّل؟ يعرض عاهته ليثير إشفاق الناس عليه ويستدرّ عطفهم، وجيوبهم.. العاهة قرينة انفعال.. والانفعال يلد الاقتناع بوجوب العطاء.
10. “حديث” مكذوب يقول رواتُه إنّ بعض الشعراء حضر أمسية كانت سعاد الصباح تلقي الشعر فيها، فلمّا أتمّت إنشادها سألته رأيه فقال لها:
– “من أجود ما كتب نزار قباني”.
أقول حديث مكذوب لأنّ الذي وضعه لا يريد أن يعترف للمرأة بقول الشعر.. وعند هؤلاء، لكلّ شاعرة نزارُها الذي يكتب لها.
ولعلّ أحلام مستغانمي كانت أسيرة لهذا الفهم إذ لم تنشر أولى روايتها إلّا ممهورة بتأشيرة من نزار قبّاني على صفحة الغلاف بخطّ يده.
11. لا أحبّ الغمز من قناة المرأة لأنها امرأة.. ولست أقول بأنّ المرأة مستطيعة بالرجل، بل أقول العكس، أقول المرأة هي أمّ الاستطاعة، ويمكن لكلّ أنثى أن تبدع شعرا عظيما.. الشعر ليس حكرا على الرجال.
12. المرأة عنوان الخصوبة في الطبيعة ولها سيادة الجمال في الفنون.
أقول هذا وأنا أعلم أنّ بعض الجميلات يأتين الفنون، لا من أبوابها، بل من باب جمالهنّ، يستولين به على رجال يقال عنهم كبار يفتككن منهم اعترافات يسيرون بها في الأوساط ويقال شاعرات.
13. المرأة الشاعرة لا تحتاج إلى رجل تتّخذ منه جسرا لها ليقال شاعرة.. وإن هي احتاجت إليه وقصرت حاجتها عليه فليست بشاعرة.. وقد يقول في غيابها نقيض ما يقول لها في وجهها.
14. مثل تلك التي يغرّها الثناءُ كمثل حسناء تغنّي بلا صوت، تغنّي بجمال وجهها واعتدال قوامها وبما تبدعه من تثنٍّ يلوي الأعناق ويصرف إليه الأنظار ويثير “الماوراء”.. تغنّي بآثار نعمة الخَلْقِ التي عليها.. الجمال يحجب مسارب الأسماع إذ تختلط بلذائذ الأبصار، ومن هنا فتنة الجمال، جمال البصر قد يحتال على الأسماع بالصمم.
15. أنا أسمع أمّ كلثوم، أهيم بصوتِها وصوتُها يغنيني عن وجهها.. جمال صوتها يشرب كل الجمال.
وأسمع وردة الجزائرية ويمتزج السمع عندي بالبصر إذا رأيتها تغنّي، ولكنّ جمال وجهها لا يطمس على صوتها.. في سماع صوتها العذب ما لا يغني عن لافت جمال وجهها.
وأسمع ميادة الحناوي تردّني عند كلّ سماعيها إلى نشوة المراهق التي مررت بها ذات زمان يبعد ولا يغيب.
وأسمع نجاة الصغير فأبصر بأذني وبما يرِدُها (الأذن) من بديع صوتها (نجاة) أعاجيب لا أحسن أصفُها.
وأنا أمام صوت فيروز مثل متعبّد في بعض المحاريب.. أسمعها بكلّ هذا الكيان.
16. ولكن لا تروقني بعضُ الحِسان يتّخذن من جمالهنّ وسيلة للغناء.. قد يعجبنني ساكتات وحين أسمعهنّ يخصم، ما أسمعه من أصواتهنّ، من جمال وجوههنّ.. إذا دخل الصوت النشاز على جمال معتدل علّه واختلّ ما كان بالخَلق معتدلًا.
17. بعض الجميلات يردن أن يكنّ شاعرات، وليس لهنّ من الشعر غير الرغبة في قوله.. وبعض اللامعنى.. يسمّينه شعرا، ولا عيار.
أكلّما رغبت جميلةٌ في شيء كانته؟
للجمال سطوته، يبسط سلطانه على غير قليل من الرجال الذين يرون في أنفسهم أوصياء على النقد يخلعون الأسماء على ما تهوى عيونهم وتميل إليه أهواؤهم ولا أقول قلوبهم.
ليس لأحد من هؤلاء الرجال أن يدّعيَ أنّه سلطة في النقد يخلع صفة (الشاعر/ة) على من شاء ويمنعها من شاء.
18. لهؤلاء الذين يكتبون أن يكتبوا ما شاؤوا مادام بهم رغبة وإرادة.. وهم أحرار في أقلامهم، ولكن من حقّنا أن ننقدهم كما لم ينقدهم الذين يستدرّون ميلهم بالثناء عليهم في وجوههم.
19. الشعر عمل إبداعي ثقيل الميزان، ولعلّه سيّد الفنون. وأمامه أودية ثلاثة عليه أن يعبرها ليكون له خلود الجميل:
– وادي الذائقة الأولى تأتي من قول يقلب السمع “كوكتيلا” من العواطف والحواسّ والأخيلة.. تسمع أو تقرأ فتهتزّ كأنّ بالمسموع أو المقروء سحرا.
– وادي النقد العالِم يستصفيه الغربال وينخله.. وهذا يحتاج إلى ضوابط تضبطه حتّى لا يكون كلُّ شيء ككلِّ شيء.
– ووادي التاريخ،
والتاريخ لا يبقى الخفّة
ولا يذر إلّا ثقيلا.
ملاحظة: لا تسألوني عن العنوان، كأن تقولوا:
وما دخل المتنبّي؟