علّمتني خُبزَةٌ
حبيب بنسيدهم
في مثل هذا اليوم منذ سنة… علّمتني خُبزَةٌ
-《عمّي تشيّعني معاك القدّام》؟ بهذه الكلمات اقتحمت نبرة رقيقة شبّاك سيّارتي في محطّة استخلاص.
-《طبعا ولدي تفضّل》! أجبته راميا عرض الحائط بتلك الوساوس التي تقول لفاعل الخير في تونس في مثل هذه المناسبات؛ “احتط” ماتدريش عالدنيا! الدنيا جابت ماعندها.
فتحت له الباب الأماميّ ليجلس بجانبي، أغلق باب السيّارة بيده اليمنى في حين تشبثّت يده اليسرى بقفّة يكاد ينطق سعفُها من آلام صاحبها!
وما إن هممنا بالانطلاق حتّى التفتَ لي قائلا:《عمّي ميسالش تاخذ منّي الخبزة هذي؟ وكان موش باش تاخذ بخاطري وتاخوها منّي ميسالش هبطني》!!
صدمتُ ولم أصدّق ماسمعت!
– قلت له مبتسما ابتسامة حائر لم يغادر الاستغراب ملامح وجهه: 《باهي على خاطرك تو ناخذها المهمّ تبقى ماتهبطش》، وهممت أن أمدّ له قطعا من النقود !
-《 لااااااا عمّي، نقصد ما اطلعنيش بلاش، على قليلة شدّ منّي الخبزة》! هكذا صفعني صفعة لم أعِ مارافقها: استغراب أم حيرة أم تعجّب أم ألم أم أمل!!
لم أملك خيالي للحظات، أحسست برأسي قد تحرّر من ضيق السيّارة نحو بحر من الأحاسيس! يا الهي! ما هذه العزّة التي تجالسني!
-《ااااه..باهي عيش ولدي..يعطيك الصحة يا رجّال..تو ناخذها على خاطرك》 لا أدري كيف أجبته بتلك الكلمات التائهة!
سرعان ما أسهلت في أسئلتي محاولا إخفاء ما يُخفى، 《 أي عاد احكيلي، خليني نتعرف عليك، اش اسمك؟ وفاش تقرى؟ وبوك آش يخدم》؟
-《 اسمي (مُ)، نقرى في السنة السادسة وبابا متوفّي مللّي أنا عمري 3 سنين هاكا علاش نبيع في الطابونة》!
يا الهي، ما هذا! صفعات أخرى ترجّني رجّا! أحمق انا كيف أسأله عن عمل والده!
-《 ربي يرحمه وينجحك وليدي، خلّى راجل ماشاء الله اسمه (مُ) بقدرة ربي يكبر وينجح ويخدم ويعوّض لأمه وأخواته كلّ شيء باهي؟》.
《……صمتَ ثم قال…..ان شاء الله》! أجابني بنَفَس عميق في ثلاث كلمات اختزلت سنوات..سنوات من اليتم والحرمان والحاجة والتعب! سنوات من الكدّ من أجل لقمة حلال عساها تخفّف عنه وعن أخيه الأكبر وأخته وطأة الحرمان من الأب!
منذ تلك اللحظات، والصمت يسود! تمنيت لو ان الأرض ابتلعتني! صمتَ وعيناه البريئتان تقلّب أرجاء السيّارة، أما عينايا فخرجتا عن السيطرة!
سرعان ما تداركت قُوّته ضعفي، وقهرت ابتسامته حٌزني، 《عمّي حطّني تحت القنطرة هاني وصلت》!
– 《موش بعيدة عليك القنطرة؟ كان بعيد نزيد نقربك ولدي، ماتحشمش منّي》!
– 《 لا عمّي والله وصلت، بارك الله فيك، عيشك عمّي》!
– 《 يا (مُ) عندك تلفون؟ اعطيني رقمك عاد》!
– 《 اي عمّي خوذ…وميسالش تعطيني رقمك》.
– 《 طبعا، خوذ صديقي الصغير وتستحق حاجة كلّمني باهي》، قلت له وانا على يقين بأنه لن يحتاجني، لأن نواميس العزة التي تربّى عليها لن تسمح له بذلك.
– 《 عيّشك عمّي، تصبح على خير》.
– 《 تصبح على خير ولدي》.
نزل وغادر ومشى بخطواته البريئة نحو مزيد من الحرمان..مزيد من التعب في عُمُر اللعب… مزيد من الشقاء في الوقت الذي يَنعم فيه غيره بشتّى أنواع الرخاء.. غادر وعيني تلمحه وقد ثقل الفراق عليها، يا الهي! رجل في عمر الطفولة، عزّة في ثوب الحاجة، شموخ بقميص الفقر،…تعب.. في جلباب الحلال.
لا أدري كيف وصلت الى منزلي، فاذا بهاتفي يرن! انه (مُ)..
– 《 آلو، مرحبا بك (مُ)، لاباس ولدي》؟
– 《حمدلله، عيشك عمّي، حبيت نسأل عليك وصلت ولا》، هكذا صفعني حتى وهو بعيد عنّي! لم ينس معروفا بسيطا قدّمته له بايصاله وهو في طريقي، لم يتنكّر لمن رآه لربع ساعة!
تيقّنت أنّه لم يكُ طفلا، بل كان رجلا متكاملا يرفع قواعد البيوت، ويعيل العائلات، ويحفظ العلاقات! تيقّنت أنّه كان معلّما درّسني صفحات من المقاومة بعزّتها وطهوريّتها…تيقّنت بعده بأنّ أصدق الدروس تلك التي تتلقاها من الأطفال..لأنّهم لا يكذبون!
هكذا علّمتني خبزة معنى العزّة والشموخ، لقنتني معنى الحلال رغم ثقل الجبال، درّستني معنى المسؤولية التي تنكر لها الرجال وحفظها الأطفال..علمتني خبزة أنّ الدنيا… يدبّرها الكبير المتعال.
أحبّك يا (مُ).. إلى اللقاء.