تدوينات تونسية

من الدرس التركي

نور الدين الغيلوفي

لا فائدة لنا، نحن الشعوب العربيّة، من درس الانتخابات التركية إلّا أنّ الانخراط في زمن الحداثة السياسيّ ليس ممتنعا عن المسلمين ما اعتصمت الشعوب بعقولها وتركت أهواءها القبَليّة الموروثة من زمن ما قبل الدولة وما دون السياسة.

الديمقراطية علاج لأمراض السياسة، والعلاجُ لا دين له، يستفيد منه المريض فيُشفى كما شُفي الذين من قبله بما جرّبوه من جرعات التداوي، دون أن يدّعيَ حاكم أنّه هو الطبيب المداوي الذي يتحكّم في وصف الجرعات.. الخشية على الشعوب ليست من جرعات الحرية ولو زادت، بل من أدعياء متسلّقين من إعلاميين ومثقفين وسياسيين يظنّون بأنفسهم علما وهم إلى الجهل أقرب، هؤلاء ينكثون الغزل ويفسدون الزرع ويهدرون الزمن فتضيع بأعمالهم الأوطان ويذلّ الإنسان.

كن من شئت، مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو بوذيّا أو لا دينيّا، المهم أن تكون ديمقراطيّا تدافع عن حرية الشعوب في تقرير مصيرها، وتقرير المصير لا يعني أن يتخلّص الشعب من محتلّ أجنبيّ متغطرس ليسلم رقابه إلى حاكم جائر لا فضل له سوى أنّه مسجَّلٌ في دفاتر ولادات أبنائه.

الظلم واحد سواء مارسه محتلّ أجنبيّ قادم من بعيد أم مارسه مستبدّ مقيَّدٌ في سجلّات الوطن، بل المستبدّ أدهى من المحتلّ وأمرّ.

حين تقاوم محتلّا تُكتَب مقاوما وتكسب احترام الأحرار ولو بعد حين، بينما حين تقاوم مستبدّا توصَم بالخيانة ويأمر الحاكم الذي يلبس الوطن بسجنك فتصدر في شأنك بطاقة إيداع، يصدرها قاضٍ يخاف إذا لم يصدرها أن تصدر في حقّه هو عملا بأمر (من يحكم ببراءتهم فهو شريك لهم في الجريمة).

الدرس التركيّ مفيد للشعوب العربيّة التي بالغت دولها في إهانتها وأوغل حكّامها في ازدرائها لا فرق فيهم بين منقلب قادم على ظهر دبّابة ومنتَخَب ركب إلى الناس أصواتَهم فلمّا أبلغوه مأمنه لم يصنع لهم عملا غير التنكيل بهم كأنّه يعاقبهم على اختياره وكأنّه يقول لهم لا تأمنوا مكر من لم تختبروه واحذروا أقنعة بيضاء تخفي خلفها كوارث سوداء.

الشعوب العربية لا تحتاج إلى أن تبنيَ من أجسادها حاجزا تدوسه دبّابة تتقدّم انقلابا حتّى لا تصيب ديمقراطيتها بأذى.. تحتاج فقط إلى أن تؤمن بأنّها شعوب من البشر حريتها مقدّسة وحاكمها ليس ربّا تعبده بل موظَّف تأتي به وتجدّد عهدته إذا رأت أنّه أحسن وتطرده متى أساء خدمتها ولم يفلح في طاعتها، ولا تبقي لديها من أسف عليه.

لا تنظر إلى أردوغان، فإن هو إلّا ترجمان لإرادة الناس.. بل انظر إلى الشعب التركيّ الذي يصنع حداثته.. يقتحم الحياة ولا يسلم إرادته إلى مُدية وظيفتُها أن تذبحه. الشعب التركي أراد الحياة فترجم إرادته في مهرجان انتخابيّ شهده العالَم كلّه بشغف.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock