مقالات

نخبة الزكرة والبندير المتنكرين بالحداثة والتنوير

أبو يعرب المرزوقي

من عجائب نكران الجميل من كل الشعوب التي حررها الإسلام من العبودية -عبادة العباد بعبادة رب العباد- أنهم لم يكن لهم في التاريخ الإنساني دور يذكر لأنهم كانوا مستعمرين من الفرس والبيزنطيين بعد روما فإذا بهم يصبحون مسهمين في التاريخ الكوني بالتعاون بينهم. ومن عجائب الدهر أن التبني كان في اتجاه معكوس: المسلمون الأول هم من تبنى من تلاهم ممن تحرر من عبادة العباد بعبادة رب العباد فكانوا كلما حل في بلد مفتوح:
لا يستبدون به – ولا يفنون أهله – ولا يقتلون ثقافته كما فعل بهم الاستعمار في عصر الانحطاط بل كانوا يحافظون عليها وإن أضافوا إليهم وحدة العقيدة ولسان القرآن دون فرض بديل بقاء ثقافاتهم حية إلى ألان رغم كل محاولات الاستعمار تفيرهم من الإسلام والمسلمين الأول.

وأخيرا فإن الحثالة من المثقفين الذي يمثلهم أبرز تمثيل في بلاد المغرب الكبير -ولهم نظائر في المشرق الكبير- نوعان: الحركيون في الجزائر والمغرب والصبايحية في تونس.

ولهم حجتان:
الأولى يكذبها التاريخ وهي دعوى أن الفتح كان غزوا استعماريا: وينسون أن كل الإمبراطوريات المغربية كانت من أهل البلد وليس من المعمرين كما هي الحال مع الاستعمار الفرنسي. وكانوا فيه مادة النار في حروبه لاستعمار غيرهم بهم بل ولتحرير نفسه من الغزو بهم ثم يتنكر لهم فيبقي عليهم عبيدا. وإذن فالحركيون والصبايحية يستمرئون العبودية والمعاملة التي رضعوها من عصر روما وبيزنطة ومثلهم نظائرهم في المشرق: كانوا عبيدا لفارس وبيزنطة ثم صار لهم شأن في دولة الإسلام وكونوا إمبراطوريات بعد أن كانوا ذكورهم عمال ونساؤهم جواري، كما نراهم الآن في الهلال بعد أن استردت إيران إمبراطورية فارس بعرب لا يفيد معهم إلا الحجاج لفرط ما وصلوا إليه من ذل ومهانة. فتكون فرنسا عوضت روما وإيران عوضت فارس وشعوب الإقليم عوضوا عبيدهما وجواريهما.

الحجة ا لثانية هي الحداثة والتنوير: لكن لما “تقرقش القشرة” ماذا تجد؟ تجد أن اكثر من 99 في المائة منهم حفتريش وأميين وهم في الحقيقة لا تعنيهم من الحداثة الاستعمارية وليس التنويرية إلا إشباع الغرائز البهيمية.
والواحد في المائة الباقي هم مثقفو بيع الروبافيكيا الثقافية الغربية: وهم المتعالون على المشاركة في ثورة الشعوب التي تريد استرداد حرية إرادة الأمة ورجاحة حكمتها من الاستعمار الثقافي الذي ينتج نخبة مثلهم.
فهي نخبة تجمع بين روح الحركيين وروح الصبايحية: حداثتهم هي ثقافة التحضير المستبد بالتعامل مع الشعب تعامل المستعمر مع من يسميهم أنديجان بدعوى الوظيفة التحضيرية للمتخلفين:
يتصورون أنفسهم أوصياء على الشعوب التي لا يعتبرونها جديرا بالديموقراطية لأنهم لم ينضجوا حسب رأيهم للحداثة والتنوير والديموقراطية.
وحتى يخفوا هذه العمالة يدعون أكثر من الحداثة فيزعمون ما بعدها بالتقليد البليد: يعني مثلا تجدهم يكثرون من محاكاة هيدغر ونتشة. وينسون أن هيدغر وحتى نتشة من حقه أن يبحث عما يتجاوز ما تحقق في بلاده أي تجاوز الذروة التقنية التي تسد الحاجة المادية رعاية وحماية لغايتها أي الحاجة الروحية.

لكنهم هم “تر” يسمي هروبه من المساهمة في تحقيق شروط الحاجة المادية التي سدها هو الذي يحرر الإنسان ليفكر في ما يتجاوزها إلى غايتها أي الحاجة الروحية فيكون عديم الوسائل لسد الحاجتين:
يشكو من التقنية وهو ابن خماس أو خدام حزام ما زال يعمل بالمحراث العربي وليس له ما يحمي به نفسه ولا بلاده. فيسمي هروبه من المسؤولية في تحقيق شروط الرعاية والحماية وخاصة حرية الإرادة بالقوادة ورجاحة الحكمة ببيع قشور الروبافيكيا الثقافية العدمية -النيهيليسم النيتشوي. ولعل ابرز مثال هو مواقف الجامعيين في بلاد المغرب الكبير كله من الثورة على الاستبداد في البلاد.

فهم متحالفون حتى مع الحمقى من الانقلابيين من أمثال نعجة سوريا وحفتر (يش) ليبيا وكل طغاة العرب من الأنظمة العسكرية والقبلية حتى “يشيخوا” بما يعتبرونه غاية ثم يزعمون مدح الأخلاق والتصوف وحتى الجماليات بأقبح الصفات: فحتى أرسطو الذي بحث عن العلم الرئيس اعتبر طلب ارقى ما في العلوم هو ما يتلو سد الحاجات حتى وإن لم يضمن شروط الإرادة الحرة والحكمة الراجحة: وهما أساسا كل معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون.
فعنده النخب التي لا تستطيع سد حاجات شعبها بعملها وعلمها ربيت تربية العبيد ومن ثم فهي لا تستحي من رؤية شعبها متسولا في الرعاية وفي الحماية بسبب الاستبداد والفساد والتبعية للمسيطرين على البلاد من مافيات الداخل والخارج: أي وجهي الاستعمار الذي لا يتحقق من الخارج من دون تواطؤ الداخل.

وأول المتواطئين في الداخل هم صنف الحركيين والصبايحية من النخب أي من الواحد في المائة الذين يدعون الحداثة والتنوير ويقتصر التحديث عندهم في اعتبار الشعب أنديجان.
وهو ما سماه ابن خلدون بـ”فساد معاني الإنسانية” وفسره بظاهرة العنف في التربية وفي الحكم: وإذن فكل هؤلاء الحركيين والصبايحية ربوا بالعنف ويستمرئون الحكم العنيف في ممارساتهم كمدرسين وكقوادة للمنقلبين في الأنظمة العربية سواء كانوا من الأنظمة العسكرية أو من الأنظمة القبلية التي تستخدمهم ولعل النموذج “مؤمنون بالنقود بلا حدود”.

تفوه على النذالة وعبيد الزبالة ممن يخلدون إلى الأرض ويزعمون التنوير وليس لهم منه إلا الزكرة والبندير.

الحركيون والصبايحية: هم المتعاملون مع الاستعمار الفرنسي

الزكرة والبندير: المزمار والدف

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock