مقالات

الإعلام العمومي “سارح في ملك ربي”

كمال الشارني 

وسع بالك معايا، الأمر يتعلق بما يجب أن تعرفه:
صحيفتا لابريس والصحافة لم تصدرا اليوم، دار الصباح تقاوم ببسالة للبقاء واقفة والزملاء في إذاعة شمس أف أم المصادرة يتساءلون إلى أي حد يمكنهم المزيد من الصبر بلا أجور من اللحم الحي، الإعلام العمومي “سارح في ملك ربي” خارج أي برنامج أو خطة عمل.

أولا: احتفظ برأيك في محتوى هذه المؤسسات، لأن كل وسيلة إعلام هي نافذة ترى منها هذا العالم برؤية مغايرة وإلا لكانت لنا وسيلة إعلام واحدة برأي واحد وانتهى الأمر، ما يهمني هو أن لا تترك وسائل الإعلام الوطنية نحو الأجنبية، الباقي ثمة حلول معروفة في العالم لتعديل المحتوى الإعلامي،

ثانيا وهو الأهم: هل ثمة نية لترك المؤسسات الإعلامية التونسية تتعفن بقصد الموت واحدة إثر الأخرى؟ وما هو البديل؟ الكومند نحو وسائل إعلام أجنبية الله أعلم بنواياها؟

ثالثا: هل ثمة حلول؟ وحده الدخيل على مهنة الصحافة سيقول لك: لا، هو أصلا يقول لنفسه: مؤسسة لا تنتج الياغرت أو حكك الطماطم لا يبقى لها إلا أن تكون وسيلة حرب سياسية،

الإعلام العمومي
الإعلام العمومي

في الواقع: طبعا ثمة ألف حل، الصحفيون المحترفون ذوو المعرفة والخبرة هم أقدر الناس على معرفة الرأي العام وهم سادة الأجناس الصحفية التي تستجيب إلى حاجة الناس لمعرفة الحقيقة وإعطاء معنى لما يحدث لنا، الصحفي الجيد هو الذي يحسن خلق الانتظار والتشويق لعمله القائم على اختيار الجنس الصحفي المناسب واللغة المبدعة والثقافة العميقة، لأنه يتعلم طرح الأسئلة الحقيقية، “يجيك واحد” لا يفهم أول قاعدة أساسية في الصحافة: التفريق بين الخبر الصناعي والرأي الخاص ويقول لك: انتهى زمن الصحافة، نحن في زمن الأنترنيت وفايسبوك وكلنا صحفيون،

لا عمي الراجل، أنت لست صحفيا، أنت نرجسي جاهل تعتبر رأيك الشخصي خبرا مهما تريد فرضه على الرأي العام ولا تفهم في هذه المهنة شيئا وأنت أحد أسباب خراب مؤسساتها، هذا لو كان لك رأي يستحق الاهتمام أصلا، أما حكاية نهاية الصحافة في زمن الأنترنيت وفايسبوك فهذا أهم دليل على أنك دخيل، فشلت في مهنتك الأصلية وجئت تفسد مهنة أخرى نبيلة لا تعرفها، في تراث مهنة الصحافة قيل إن الصحافة المكتوبة انتهت مع ظهور الإذاعة، وعندما ظهرت التلفزة والنشرات المصورة قيل إن الصحافة المكتوبة والإذاعية انتهت خصوصا بعدما نقل الصحفي بيتر أرنت على الهواء أحداث حرب العراق في 1991 من سطح نزل في بغداد، ولما جاءت الأنترنيت، قيل إنها نهاية الصحافة التقليدية وبداية عصر المواطن الصحفي، لكن الصحافة الجيدة تعيد اختراع نفسها في كل مرة، وكل ما عليها هو أن يتركوا الصحفيين يمارسون علمهم للبحث عن الجودة والعمل الصناعي المتميز،

أنا مثلا، حين درست صحافة الأنترنيت في CFJ في باريس 2001، كان أستاذنا غي توزي Directeur éditorial يرينا في كل حصة كيف تفتتح الكثير من نشرات الأخبار التلفزية العالمية بعناوين أعمال صحفية أنتجتها صحف ورقية مثل لوموند ولبيراسيون والفيغارو لأنها تخلت عن الأعمال اليومية التي تتناولها مواقع الأنترنيت نحو الأعمال المتميزة وخصوصا صحافة الاستقصاء والريبورتاجات الجيدة والحوارات القوية، مؤكدا أن أداة الصحافة الأولى هي ثراء وقوة الأجناس الصحفية والتميز النوعي وأن العلاقة بين وسائل النشر هي علاقة تكامل وليس حرب بقاء، لذلك استمرت لوموند مثلا، لكن المثال الأبرز الذي حدث بعد ذلك هو مؤسسة مديابار Mediapart مدفوعة الأجر الذي أحدثها رئيس تحرير سابق في صحيفة لوموند Edwy Plenel عام 2007 وما تزال تمثل أنموذجا للدراسة: يعني صحافة أنترنيت بالفلوس ويقبل عليها الناس، عندها اليوم حوالي 220 ألف منخرط (mars 2023) يدفعون لها شهريا حقوقها المالية القارة لأنهم يثقون بمحتواها دون أي عقد إشهار، أنظر حالنا في الأزمات الوطنية الكبرى: نبحث عن الأخبار في وسائل الإعلام الأجنبية، يصنع وعينا الجماعي وفهمنا لما يحدث لنا خارج بلدنا، باهي هكه؟ هل تعرف السبب؟ لأن مؤسساتنا الإعلامية تقوم على مشاريع غير صحفية بل سياسية رديئة وغبية وتنتدب لذلك أشخاصا لا كفاءة لهم سوى الامتثال للتعليمات والبحث عن تحقيق الفوائد الشخصية وبعضهم يحتقر علوم الصحافة أصلا ويعتقد أن رأيه الشخصي في الإسلام السياسي والصيام وذبيحة العيد الكبير وفلوس الحج أهم من أي ريبورتاج صحفي حول الفقر أو الظلم أو تحول غرب البلاد إلى صحراء قاحلة وأن استجلاب امرأة فاسدة وقحة على موقع تواصل اجتماعي يجلب الجمهور والمستشهرين والجو، كانت قناة فوكس نيوز ولا تزال واحدة من أخبث وسائل الإعلام الأمريكية، لكن قوتها في قدرتها على إنتاج برامج صحفية قوية وصحفيين أفذاذ قادرين على تحول أي حدث إلى موضوع رأي عام يجلب الجمهور ومعه فلوس الإشهار، معادلة: انتدب صحفيين جيدين ثم استغلها لتمرير الخباثة،

ماذا يتطلب اليوم لإنقاذ مؤسسة إعلامية تونسية؟ ساهل ماهل:

أولا: تقدير وضع المؤسسة من المدفوعات والمداخيل وديونها وإقرار خطة عاجلة لوضع حد للنزيف المالي بالتخلي القانوني عن المشعوذين والدجالين والذين لا فائدة لهم،

ثانيا: وضع أهداف تحريرية للمؤسسة وتعديل التهديف: لمن تتوجه وبأية لغة وأي أسلوب؟

ثالثا: انتداب مدير تحرير صناعي، دارس صحافة وله خبرة طويلة أثبت فيها كفاءته في إدارة فريق تحرير، يقدم خطة عمل مفصلة وقابلة للتثبت من تحقيق نتائجها كل ثلاثة أشهر، يتكفل بالانتداب والتأطير وتكوين فرق العمل وفق عقد الأهداف، يقدم عرضا أمام صاحب المؤسسة ويقدم ضمانات مقنعة لتحقيق ما يعد به مقابل أن يمتنع أي شخص في الإدارة في التدخل في عمله، ويكون هو صاحب الأجر الأعلى في المؤسسة،

في مهنة الصحافة، نحن نعرف بعضنا جيدا، الصحفي الجيد لا يضيع وسطنا، في عالم الصحافة لا يتم الانتداب وفق العلاقات الشخصية بل ثمة شخص نسميه “Chasseur de têtes”، صياد صحفيين جيدين وواعدين بأجور تستحق أن يبذل الجهد فيها وليس بـ 500 دينار تحت الحائط بتأخير شهرين، مع نواة صلبة من صحفيين قدامى ذوي خبرة وكفاءة في التأطير، ثم نعود إلى أصل العمل الصحفي باجتماعات التحرير conférence de la rédaction، النتائج تكون طبيعية وقابلة للمحاسبة مع نظام قيس متابعة سليم، عندما تحقق كل هذا، سوف يتدفق عليك الإشهار والشركاء للاشتراك معك في بث ما تنتجه، وأيا كانت الحال، سوف تتخلص من نصف تكاليف العنصر البشري حين تتخلص من الكرانكة والمشعوذين ومنتجي برامج الغباء العام، أحلم بوسيلة إعلام، عندما تقدم “خبيرا” تضع على الشاشة جنب وجهه أبواب خبرته والكتب أو الدراسات التي ألفها في اختصاصه ومرجعيتها العلمية،

عموما، إذا بلغت معي هذه المرحلة من هذا المقال المطول، فيجب أن أشكرك على الصبر ووسع البال، أما لو علمت ما تنفقه مؤسسات الإعلام التونسية من مال، لتساءلت مثلي: من أين يأتي نهر الأموال وما هي أهدافه؟ ولماذا ينفقون المال بشراهة على الزنوس ويبخلون على الصحفيين والتقنيين بالحد الأدنى؟ هل تعرف أنه يكفي أن ترسل الدولة موظفا من الضرائب وموظفا من الشؤون الاجتماعية لإغلاق أغلب المؤسسات الإعلامية بالقانون؟

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock