تدوينات تونسية

هطّاية

توفيق رمضان

لم يعد يفصلهم عن «فريڨة» سوى مسير أربعة أيام أو خمسة. لكنها تعبت من حمل التوأم، البنت على ظهرها والولد على صدرها تشدهما بـ «شملة» أشتراها لها والدها يوم عرسها.. لازالت تحتفظ بها رغم مر السنين.. كانت تستعملها كحزام لتخليلتها، لكن بعد ولادتها توأما أصبحت تلفهما بها.. أربعة أطفال أكبرهم في العاشرة يمشون أمامها تحرسهم وزوج لا يقدر على العمل بالكاد يمشي. لكنها لا تستطيع الرحيل دونه. رغم أنها مع أهلها وجيرانها لكن لابد من رجل معها لليل الطريق وحتى لا تنهشها الألسن.

اذا جن الليل تأوي الى جذع أقرب شجرة وتتوسط أطفالها الستة تعطي للكبار قليلا من البسيسة مع جرعات من الماء وتلقم التوأم ثديها ليرضعا ثم تخلع تخليلتها وتلقيها فوقهم كازار.. وتجول بنظرها في السماء تعد النجوم وتزرع أحلاما وتسال الله القوة حتى تواصل الرحلة. وتمني النفس أن تعمل عند نفس الرجل الذي حصدت عنده السنة الفارطة. كان كريما معهما إذ انه يمنح أجرة يومية لزوجها مقابل تكليفه بإشعال بسيطة هو في غنى عنها. زوجته امرأة فاضلة كم كانت تحسن لها وتعطيها بعض الزاد وملابسها القديمة..

التوأم حرارتهما مرتفعة منذ الصباح وها هي تزداد قليلا هذا الليل تبللهما بقليل من ماء الزهر وجدته عند بنت خالتها. الطفل يتعافى قليلا، أما البنت فلم تعد ترغب حتى في الرضاعة. مع ساعات الفجر الأولى ينطلق المسير، أطفالها الأربعة أمامها، زوجها مع أبن عمها يتناوبان الركوب على الحمار، يجب أن يسرعوا في المشي قبل بزوغ الشمس لأنهم بعدها لا يقدرون على ذلك كما أن الظهيرة وقت راحتهم.

يسمعون صهيل خيل وراءهم وصوتا يدعوهم للتوقف والانتظار. انهم الفلاڨة ترى ماذا يريدون؟ ليس لهم زادا يكفيهم المسير حتى يمنحون منه للفلاڨة. يتقدم أحد الفرسان يحمل بين يديه رضيعا، الظاهر أنكم نسيتم هذه الطفلة تحت الشجرة. تتقدم منه لأخذها متظاهرة بنسيانها ومبدية لهفة مصطنعة. لقد قررت أن تتركها لمصيرها تحت الشجرة وحتى ترتاح من حملها ربما يجدها من هو في حاجة الى طفل. خيرت الولد عليها لأنها في حاجة الى رجل قد بشكل مع إخوته فريقا من الحصّادة بعد سنوات قليلة… تبقى هي في الديار وترسلهم الى «فريڨة» ليعودوا لها بـ «شكاير النعمة» التي تكفيهم.

تعيد ابنها الى صدرها وتعيدها فوق ظهرها قائلة «سيدي الناصر بعثلها الفلاڨة باش تمنع… ماعادش تموت هالطفلة».

تذكرت أيام حملها كيف قالت لها إحدى العرافات في الدوار أنها «ما تعيشش البنات» لكنها رأت الولي الصالح سيدي الناصر في المنام يبشرها بتوأم. لذلك اختارت للولد اسم الناصر وللينت نصرية. وهاهو سيدي الناصر يلحق بها على بعد مئات الكيلومترات ويعيد لها ابنتها… ويحفظ بشارته.

هطّاية: عمال موسميون لحصاد سنابل الحبوب

فريڨة: الشمال الغربي التونسي

الفلاڨة: المقاومون للاستعمال الفرنسي

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock