خيبة الأدب: عن تدمير موهبة القراءة والكتابة في تونس
كمال الشارني
عن الكتاب التونسي ومعرض الكتاب مرة أخرى
قبل أن ينتهي معرض الكتاب وصور المجاملات والإمضاءات النرجسية، والزعم بأن عندنا مجتمعا أدبيا يحلم ببيع ألف نسخة من أفضل رواية، نص بتاريخ 24 فيفري 2016
عندما بلغت من العمر ستة عشر عاما، كنت قد قرأت أكثر من 80 بالمائة مما كتب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس وغيرهم من أدباء مصر، الرائع محمود عبد الحليم عبد الله،
لكني لم أعرف من الأدب التونسي سوى “سهرت منه الليالي” لعلي الدوعاجي (كم كرهتها وكم بدت لي سخيفة وغير مثيرة للاهتمام هي ورواية جولة بين حانات البحر الأبيض أو الأزرق المتوسط)، ثم “القنطرة هي الحياة” و”سرقت القمر” لمصطفى الفارسي الذي لم أفهم إلى اليوم ما الذي جعل منه كاتبا وما الذي بقي في ذاكرة الأجيال منه، ولا لماذا أجبرونا على أن نطالع كتبه في الثانوي، أيضا كان هناك كتاب تونسي آخر جعلني أكره الأدب التونسي حقا: “صلعاء يا حبيبتي”، أستاذ العربية نفسه الذي اقترحه علينا لم يجد ما يبرر تدريسه، ونحن بخبث المراهقة وقلقها كنا نحول العنوان إلى إيحاءات جنسية مخجلة لزميلاتنا في القسم، جعلنا ذلك الكتاب نكره الأدب التونسي واعتبرنا دائما أنه مثل مجموعة من القرارات الفوقية التعسفية علينا، لا غير، وفي تلك السنوات التي تصنع فيها الذائقة والموهبة، كنا نحس أن الروايات التونسية المقررة ليست سوى خيبة رسمية للأدب، لم أجد أي مبرر للعودة لمراجعة نفوري من رواية صلعاء يا حبيبتي ولا أتخيل أن مثل ذلك الشيء الذي يشبه 99 بالمئة من الأدب الرسمي يمكن أن ينجح في شد اهتمام أحد.
إن توزيع رواية “إجباريا” في المعاهد الثانوية يعني بكل المقاييس ثروة للناشر أولا، ثم للكاتب ذي الـ 12% من الحقوق المالية، لذلك أحاول اليوم أن أفهم سر إجبارنا على قراءة تلك الروايات المدمرة لحب القراءة، ومن ورائها موهبة الكتابة في بر تونس، وحتى اليوم، لا أحد يعرف سر اختيار الكتاب التونسيين في برامج الأدب المدرسي، سوى أن كتاب تلك الكتب لا يعرفون شيئا عن الأدب المحلي ولا العالمي، لا يهمهم أصلا أن يعرفوا،
مررت برواية “حليمة” للعروسي المطوي، لكنها لم تخلف في أيّ أثر حقيقي، ولم اكتشف رواية “الدقلة في عراجينها” للكاتب التونسي الفذ البشير خريف إلا بطريقة شخصية في مكتبة أحد أساتذتي، وفيما بعد عرفت أنها تحاكي رواية “جرمينال” للكاتب الفرنسي الشهير إميل زولا، إنما لم يحالفها الحظ على حد علمي بأن تكون في برنامج المطالعة الحكومي.
فيما بعد، كبرت، عرفت، قرأت، لاحقت كل رواية تونسية، أو شبهها، وبعد 34 عاما من مهنة الصحافة التي أتاحت لي أن أطلع عن كثب على مجريات الأدب وأسراره في بر تونس، أعرف حقيقتين ثابتتين: لا شعب تونس عاقر عن إنتاج روائي جيد ومبدع حقيقي، ولا هو “لا يقرأ” أو يكره أو يزدري الأدب كما يريد البعض أن يشيع بين الناس لتفسير فشله في بيع أكثر من 100 نسخة من روايته خارج منظومة شراءات الدولة، عندما توقفت هذه المنظومة عن فرض كتاب “القنطرة هي الحياة” مثلا، انقطع ذكره أصلا، ثم من منكم يعرف كتاب “صلعاء يا حبيبتي” أو مستعد لقراءة شيء بهذا العنوان ؟
كل ما في الأمر أن الأعشاب الطفيلية في حقل الأدب أكثر من الزرع، وأن الدولة ترعى هذه الأعشاب وتضيق على المبدعين بمنظومة معقدة، تجعل التونسي من أكثر شعوب الله تركا لأدب بلاده وإقبالا على أدب الشعوب الأخرى.