الطيب الجوادي
وتنهمك كل العائلات في ريفنا الكافي البعيد في إعداده، فلا تمر ببيت من بيوت الدوار إلا وداعبت خياشيمك رائحته المميزة.
ولا غرو فالمقروض بقي طيلة سنوات طفولتي ملك الحلويات بدون منازع، ولا يمكن تصور العيد بدونه، وكانت هنية تبدأ في إعداده مباشرة بعد ” ليلة السبعونية” ، فتقتني التمر المعجون والسميد ، وتخرج القالب من مخبئه، وتعد “الميدة” “باش تحل عليها المقروض”، أما عملية القلي فتتكفل بها نعيمة، في حين أتكفل أنا بنقل المقروض بينهما، وكانت نعيمة تمنحني في كل مرة قطعة قبل التشحير، الذي تتكفل به هنية بعد أن تذيب السكر في الماء والليمون إلى أن يأخذ لون الذهب، ثم تغطس فيه قطع المقروض ثم “تستقطرها” في إناء آخر!
وبعد أن تعد هنية المقروض تنشغل بالمحافظة على كميات معقولة منه حتى يوم العيد، ذلك أننا لا نكف عن تحيّن الفرص لسرقة كل ما تصل إليه أيدينا الصغيرة منه، فكان كل صبي أو صبية في الدوار يسرق ما تيسر منه لنتقاسم غنائمنا في غفلة من الكبار، وباعتبار أن مقروض خالتي عائشة رحمها الله هو الأفضل مذاقا، فقد كنا نستعطف المنصف ولد عمي أن يسطوَ على أكبر كمية ممكنة منه، فاضطرت المسكينة أن تخبئ سينية المقروض تحت القصعة في غرفة النوم وأن تحرسها باستمرار، وكنا نحن مثل الذئاب الجائعة نترصدها بانتباه، وبمجرد مغادرتها المنزل لأي سبب، يتسلل المنصف ولد عمي، ليملأ كفيه من مقروضها اللذيذ ذي الحجم الكبير.
كانت السعادة تغمرنا من كل جانب ونحن نحضر مقروض العيد، سعادة صافية ، بريئة ، لا يكدرها ضيق ذات اليد ولا قسوة الحياة، ولم تكن هنية تكف عن ترديد مواويلها الكافية الشجية وهي تعد المقروض، وكنت أشاركها الغناء مما يثير ضحك جاراتنا اللاتي كن يترددن على هنية لطلب التمر أو السكر أو لمجرد الدردشة، وكانت رائحة المقروض ” تفحفح” في كل الدوار، مؤذنة أن الدنيا بخير، وأننا بصدد استراق ما تيسر لنا من فرح مثل بقية خلق الله،
••
الثابت عندي : أننا كنا في قريتنا البعيدة، نفرح بالعيد!
كنا نفرح بثيابنا الجديدة، التي تقتنيها لنا هنية من الفريب وتغسلها جيدا، وبالطبع لم تكن تراعي تناسق الألوان أو تناسبها مع أجسادنا طولا أو مقاسا، فالمهم أن تكون ثيابنا جديدة، ولا يهم أنها بألوان زاهية أو أنها أطول من أجسادنا أو أنها أكثر اتساعا.
وتحتاج هنيّة وقتا طويلا لتلبسنا ثيابنا الجديدة، ففي أغلب الأحيان، تكون غير مناسبة لنا ولذلك عليها أن تعيد خياطة سيقانها أو أكمامها، وقد تضطرّ للتنقيص منها ب”بالجلم” بطريقة رعوانية بشعة، ولكن أكثر ما كان يزعجها: أن تثبّت بنطلوناتنا على خصورنا! فكانت تضطرّ أن تبتدع حيلا لا تخطر على بال، كانت تثبتها بخيط أو بـ “أستيك”، أو بـ “مسّاك”، وعندما تعجز عن إيجاد الحلول، تنهال علينا ضربا وتحاول ابتداع حلول جديدة
وكنا نفرح بملاليم “المهبة” التي يجود بها علينا الكبار يوم العيد!
وكانت هنيّة تنفحني بـ “المهبة” بمجرد أن استيقظ من النوم، وكان مبلغها يتغيّر بحسب “العام”، فإذا كان “صابة” من الممكن أن يتجاوز المائة مليم وقد يصل إلى الخمسمائة، وإذا كان العام “هكاكة وبرة” و “عجرودة”، تكتفي بما دون ذلك.
وكنا نفرح باجتماع العائلة الموسعة، وانتقالنا من بيت إلى آخر من أجل التعييد!
فنلعب ونمرح ونأكل ونشرب غير عابئين بشيء،
أشهد أننا كنا نفرح بالعيد في ذلك الزمن الكافي البعيد،
كنّا نفرح بكل قلوبنا الصغيرة العامرة بالحياة،
عيدكم مبروك