مقالات

الله ليس موجودا.. تأمّلات

نور الدين الغيلوفي

سألني:
– هل الله موجود؟
فأجبته:
– الله ليس موجودا…
لست عالمَ دين لأدافع عن إله لا أراه…
ولا أنا عالم أحياء لأرى أثر الله في الحياة والأحياء فأشرح للناس ما أرى…
ولا أنا عالمَ فلك لأريَهم ما عليه يقولون “سبحان الله”…

أنا جغرافيتي ما يطفو على ذهني، ومختبَرُ تجاربي لغتي أقرأها وأقرأ بها وأقرّ ما أرى.. على أنّ إقراري مشوب، دوما بحذر.. وقديما أخبرَنا الجاحظُ بجواب الذي قال:
– أنا لا أكاد أوقنُ
لمن قال له:
– أنا لا أكاد أشكّ
موجود اسم مفعول من فعلِ وجد..
وجد يجد وجودا فعلٌ يتعدّى فاعلُه إلى مفعوله.. المفعول كائن قبل أن يجده الواجد.. ولا ينتظر الله الكائنُ في الوجود واجدا ليكون موجودا…
قلت (في الوجود) ؟
وهل يجوز على الله أن يكون بعد حرف الجرّ (في) ليعمل فيه وتستغرقه دلالته مهما كانت؟
الوجود في الوعي.. ووجد اللهَ تعني وعاه.. أدركه وانتبه إليه، وليس جميعُ الناس بمدرِك ولا بمنتبِه.. هي الأفكار الممكنة يتفاوت الناس في إدراكها فما ظنّك بالله الذي ليس كمثله شيء في الأرض ولا في السماء كمال قال هو عن نفسه؟
بعيدا عن كلام المتكلّمين عن الواجد واستدلال المستدلّين على الموجِد وسببِ الوجود الذي هو قبل الوجود، أظنّ أنّ احتجاب الله لا يعني عدمه.. إذ أنّ ما لا يسعه الوجود لا يشتمل عليه العدم.. الوجود والعدم ضدّان والله خارج الأضداد وفوق الثنائيات وأكبر… “أكبر” ليست صيغة تفضيل بل صفة اجترحتها اللغة لا تليق بغير الله.. “أكبر” صيغة إطلاق يتفرّد بها المطلق.
اللغة أصلا قيدٌ لأنّها في جميع أحوالها وصفٌ لموصوفات، واللهُ لا تدركه الأبصارُ (الواصفةُ) وهو يدرك الأبصارَ الواصفةَ فيصفها كيف يشاء.
المشكلة في الذي لم يجد !
لماذا لا يتجلّى الله لخلقه ويقول لهم أنا هنا أو ها أنا ذا؟
سيتوقّف عندها عن أن يكون إلاها وسيجري عليه ما يجري على المدرَكات… سيظلّ الله محتجبا ما ظلّ بحثُ الإنسان عن المعنى، والمعنى هو الله.. سرّ الأسرار ومدار الأفكار وخالق الليل والنهار.
شباب كثيرون يسارعون إلى النفي لا قلقا ولا شكّا بل كسلا عن التفكير وعجزا عن البحث.. وليس أهل النفي بأعمق تفكيرا من أهل الإثبات.. ما دام مدار الأفكار على الإثبات والنفي فإنّ الإيمان قسمة بين الجهتين: إيمان بالنفي وإيمان بالإثبات.. والمنفيّ والمثبَت واحد.. هو مدار الحيرة ومستقَرّ اليقين.
الحياة لا تعدو رحلة بحث عن الله…
((يا أيها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحا فملاقيه)).. والضمير له في الآية مرجعان ممكنان:
– (كدحا) يلقاه الإنسان فيلقى عليه جزاء،
– و(ربّك) يلقاه الإنسان متى طلبه وجدّ في طلبه، وطلب الله يكون بالكدح إليه لا بالمسارعة إلى نفيه في انتظار أن يبادر هو بالتجلّي على من لا كدح له إليه…
ومن طريف القول: هو #ربّك وجدتَه أم لم تجده.. وهو #ربّك لأنّه وجدك.. بل هو الذي أوجدك وعرف طريقك إليه وأضافك إلى ذاته (ربّك).. الإنسان في الخطاب حاضر (مخاطَب).. حضور إضافة إلى الحضور المطلق #رب #ك.
أليس أنّ الله هو الخير المطلق والحقّ المطلق والجمال المطلق والحبّ المطلق والسلام المطلق؟
كيف يتجلّى كلّ هذا على من لم يتقدّم بمهرٍ مُجزٍ لكلّ هذا؟
الله مقصد والرحلة إليه شاقّة تستغرق عمر الإنسان وقد تتجاوزه إلى ما بعد هذه الحياة.. وإذا لم يلق الإنسانُ الله في رحلة عمره فتلك مشكلته، ومثله كمثل الراحل الذي انقطعت به مطيتُه قبل وصول غايته وبلوغ بغيته.

تؤكّد تجارب الموت الوشيك أنّ الوعي يبقى بعد موت الدماغ ويرى الإنسان الذي يعيش التجربة أمورا خارج الزمان والمكان اللذَين يستغرقان حياتنا ويعيش وقائع كثيرة ويرى أشياء عديدة في ظرف زمنيّ وجيز… ويروي الذين وقفوا على عتبة الموت وعادوا أمورا داعية إلى التأمّل، منها أنّ الإنسان قد يفقد جميع قدراته ويتحوّل بغير قدرته ورغم إرادته إلى فضاءات أخرى لا يطالها العقل ولا تدنو منها الجوارح.. هناك وعي بغير الدماغ ونظرٌ بغير العين وسماع بدون الأذن وكلام بغير اللسان…
المعاندون سيهرعون إلى تفسير ماديّ جافّ لا ملاذ لهم سواه لأنّهم لا يرون خارج الماء والهواء والنار والتراب… والمجرّبون، أغلبهم، يعودون من هناك برفض كلّ هذا… الجفاف.

الحياة تجربة
والموت تجربة
وبين التجربتين ما بين الفهم والوهم.
فهل على الإنسان أن ينتظر الموت ليرى ما لا يراه حياتَهُ؟
أنقضّي العمر في انتظار موت لا ندري متى يأتي وبما يأتي حتّى نرى أو لا نرى؟

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock