مقالات

هل تحتل أوروبا شمال إفريقيا ؟

أحمد الغيلوفي

ما قاله الجنرال الإيطالي المتقاعد “علينا احتلال حكومات شمال إفريقيا” هو ما يدور في أذهان عقل الدول الأوروبية الباطن بشكل مُتكتَم، الفارق الوحيد هو أن الإيطالي ثرثار ومهذار.

الحقيقة هي ان كل شيء ملائم لما قاله السيد كارلو جان، وليس هناك أي شيء يمنعه: كل السياق العالمي وكذلك وضع ليبيا وتونس، وظروف أوروبا .هو بالفعل حل استراتيجي أوروبي. هذا الأمر ليس مستحيلا إلا داخل العقل اليومي المُطمئن الذي لا يقرأ الواقع ولا يستقرئ التاريخ. يُعامل الأوضاع القائمة دوما على أنها سرمدية، ويعتبر الدول “عاقلة” وان زمن الاجتياحات قد فات”، يقول هذا وهو يرى يوميا في العالم ما يُكذبه. هكذا اعتقد المصريون الى أن استيقظوا فوجدوا نابليون يُحاصر القاهرة، لم يكونوا يعرفون ما يحصل في الضَفة الأخرى من صراع بين فرنسا وإنجلترا. وكان الليبيون والتونسيون مطمئنين لوجودهم تحت الحماية العثمانية الي أن دخلت الجيوش الفرنسية من الجزائر ولم تتوقف إلا في باردو ثم دخلت إيطاليا ليبيا، لم يكونوا على علم بالوهن الذي أصاب الإمبراطورية العثمانية ولا بما قرره مؤتمر برلين من تقسيم لإفريقيا.. الأمثلة كثيرة ولكن علينا إضافة جملة واحدة لأنها مفتاح كل شيء: “ولا اعتقد أن الأوكرانيين كانوا يُصدقون أن روسيا ستجتاحهم في القرن الواحد والعشرين”.

لم يعد الوضع العالمي “ستاتيكي” كما كان الحال بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراد الولايات المتحدة بالقرار الدولي. إن ميلاد محور جديد يواجه الحلف الأطلسي سيُدخل العالم في حركية وسباق حول الثروات وامتلاك الجغرافيا شبيهة بما حصل بين فرنسا وإنجلترا في القرن التاسع عشر. ولدينا دلائل قوية على بداية هدا التنافس المحموم: اجتياح روسيا لأكرانيا، خروج فرنسا من ليبيا ومالي وبوركينا فاسو، مفاجأة الصين للعالم وتوسطها بين السعودية وايران، ارتباك الولايات المتحدة وعجزها على القيام باي شيء تجاه كوريا الشمالية وايران والصين. كل المؤشرات تؤكد أن العالم سيدخل دورة جديدة من الحركية وعدم الاستقرار.

لم تعد مصادر الطاقة التي تُغذي الصناعة الأوروبية مضمونة لإيطاليا وألمانيا وفرنسا، وأصبحت هذه الدول تقريبا تحت رحمة روسيا وايران ونيجيريا والجزائر، أما دول الخليج بقيادة السعودية فقد أصبحت فعلا “تشبَ عن الطوق”. الاتفاق السعودي الإيراني علامة قوية على دلك. أوروبا في وضع طاقي شبيه جدا بذلك الذي انتج الموجة الأولى من “الهرولة نحو إفريقيا” التي فرضها العطش الشديد لتغذية الثورة الصناعية 1760 الى 1840 والتي انتهت سنة 1914 حين اندلاع الحرب العالمية الأولى. الموجة الثانية كانت إبان الحرب الباردة انطلاقا من 1947 حتى سقوط الاتحاد السوفياتي. ولا تزال إفريقيا غنية بالمواد الأولية ولاتزال أوروبا في حاجة الي النفط والغاز والحديد والنحاس والأورانيوم.. ولكن الأمر لا يتعلق فقط بمواد الصناعات التقليدية: من يريد أن تكون له اليد الطولى في الصناعات الحديثة عليه بالسيطرة على إفريقيا: اللَيثيوم والكوبالت الذي يستخدم في صناعة البطاريات ونعرف توجه العالم للاستغناء عن السيارات التقليدية وفي صناعة الكومبيوتر والهواتف المحمولة، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة سنة 2019 الي اعتبار الكوبالت مادة حوية استراتيجية. هذا الكوبالت 50 % منه موجود في الكونغو الديمقراطية التي تُصدَر 70% منه الى الصين. هناك سبب أخر للهرولة مرة أخرى نحو إفريقيا: عدد سكانها الذي يمثل سوقا كبيرة لأوروبا التي تعتمد على التصدير. هناك أمران ضروريان لاي اقتصاد صناعي: مواد خام وأفواه تستهلك. في تقرير للأمم المتحدة ستكون إفريقيا حتى سنة 2100 هي اكبر قارة من حيث النمو السكاني وسيبلغ سكانها 4,3 مليار نسمة في 2100.

هو في الحقيقة عندما ننظر الي القواعد العسكرية الأجنبية في إفريقيا نُدرك أن “الهرولة” قد بدأت فعلا: الأمم تُؤمَن دوما حاجاتها وأسواقها بواسطة السلاح، لا جديد في هذا منذ قرطاج وروما: هناك 11 دولة لها قواعد عسكرية في القرن الإفريقي فقط: فرنسا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة والصين وإنجلترا والإمارات و”اسرائيل” والسعودية والهند واليابان، أما بقية إفريقيا فاغلب البلدان بها اكثر من قاعدة.

هل الوضع الدولي يحتمل تدخَلا عسكريا أوروبيا في شمال إفريقيا؟ نعم، ولا شيء يمنعه، بمعنى ليس هناك قوة تستطيع أن تمنعه، بل لعله يكون مرغوبا فيه لحل الكثير من الصراعات: لن تُمانع روسيا اذا تركوها تبتلع أكرانيا في هدوء، ولن تُمانع الصين والهند اذا وقع احترام نصيبيهما من ” الكعكة الإفريقية”، لن تتردد تركيا واليابان اذا أخذتا نصيبيهما أيضا، أما ايران فهي مكتفية ولا تريد غير النووي.

ادا اتفق الكبار على تقسيم افريقيا فان الذرائع سهلة جدا: لقد اجتاحت فرنسا تونس بذريعة الدفاع عن امنها القومي في الجزائر، وعادت الي الساحل والصحراء بنفس الذريعة، واجتاحت امريكا العراق بحجة امتلاك العراق للاسلحة النووية، واجتاحت روسيا مند اشهر فقط اكرانيا بذريعة الدفاع عن امنها القومي.

إن قول العسكري الإيطالي يفضح ما يدور في عقول الأوروبيين، وقوله “القيام بعمليات عسكرية وتنصيب حكومات موالية” فيه غمز لروسيا وتحضير للذريعة: “كما رأيت أن الحكومة الحالية لأكرانيا تهدد مصالحك وتريد تغييرها بقوة السلاح لضمان أمنك القومي، كذلك نحن: تُهددنا الأمواج البشرية القادمة من شمال أفريقيا التي فيها حكومات ضعيفة ونحن مضطرون للتدخل لحماية انفسنا”.

لن تستطيع ليبيا المنقسمة على نفسها أن تقوم بشيء، بل قد يتم الاعتماد على حفتر في هذا وتحييد تركيا ومصر بوعود، أما تونس فاني اعتقد انه يتم استغلال رعونة السلطة القائمة لاستدراجها الي وضع خطير تقبل فيه أي حل مقابل القروض: اذا توقفت الجرايات وفُقدت المواد الأساسية فسيكون الباب مفتوحا “لحماية” أخرى، وقد اعرب السفير الفرسي على استعداد فرنسا “للتَطوَع” لسد الثغرة في الميزانية. أما المُقابل “فلكل حادث حديث”. أما لو حدث الأمر بواسطة القوة فلا ” النَخيبة” (تصغير وتحقير لنُخبة) قادرة على شيء ولا إمكانياتنا تسمح بان نواجه أوروبا. أما الجزائر اذا فكرت في أي تحرك فستتذكر أن بينها وبين المغرب مشكلة تندوف وبشار، أي مساحة ارض اكبر من تونس مرتين.

في النهاية: منذ بداية نشوء الدول كلما قال الإنسان بان عصر الاجتياحات قد ولى الا وكذبه التاريخ السياسي، لم يحدث قط أن توافرت نَخبة سياسية جاهلة وفاشلة ومتصارعة وأزمة سياسية واقتصادية خانقتان ولم يقع تدخل خارجي، خاصة اذا توافرت مناخات عالمية وتنافس بين الكبار. سيتصارع الفيلة، ولان لها دول لها عقول ونخب حقيقية، سيصلون في لحظة ما الى اتفاقات سرية. حتى ذلك الحين ها هم يتركون المأدبة الليبية “والإجاصة” التونسية تنضجان. في النهاية: هناك شيء عجيب، الدول العظمى التي تمتلك النووي مثل روسيا والصين وأمريكا تعيش دوما مع هاجس أنها ستتعرض للاجتياح في أي لحظة، واليابان وألمانيا أصبحتا يتهيئان للدفاع عن انفسهما، أما الدويلات الملقاة على قارعة الطريق في العراء مطمئنة على دهرها، بينما نُخيباتها (تصغير وتحقير لنخبة) المتصارعة التي دفعتها للهاوية فهي تأكل من القروض كما يأكل الدود من الجيفة، والى ذلك واثقة من نفسها ومن امنها وتدعي أيضا السيادة التامة. قال تشرشل يوما ما “عشت طويلا، وكل ما شاهدته لم اكن يوما أتوقعه حتى في أسوء كوابيسي”.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock