مقالات

بشيرة التونسية… وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ…

بشير العبيدي‎ 

أتممتُ دراستي الابتدائية والثانوية والمرحلة الجامعية الأولى في تونس. بيد أنني لا أذكر أبدًا أن كتابا مدرسيا تحدّث عن سيدة اسمها “بشيرة بن مراد”، ولا أذكر أبدًا أن أستاذًا لي ذكر اسمها أو أشار إليه من قريب أو من بعيد. ويبعد جدا أن أنسى هذا الأمر، فاسم هذه السيدة هو مؤنّث اسمي، وكيف ينسى أحد اسمه أو مؤنّث اسمه.

بشيرة بن مراد
بشيرة بن مراد

على أنني سمعت اسم “بشيرة بن مراد” لأول مرّة قبل ربع قرن من الزمان، حين التقيتُ المخرج السينمائي التونسي منصف بربوش. أتذكر تفاصيل تلك الجلسة التي سمعتُ خلالها بهذا الاسم، لقد كنا في منتزه في إحدى مدن وسط فرنسا، محافظة لوار إيشار، حين سرد على مسمعي المخرج التونسي تفاصيل قصّة عجيبة لسيدة تونسية مغدورة ومغمورة بالنكران، كان قابلها في آخر أيام حياتها، في غرفة داخل قصر قديم للبابات صار متهالكا (البايات هم حكام تونس زمن الأيالة التونسية – العثمانية)، ويقع هذا القصر القديم في الضاحية الجنوبية للعاصمة تونس، في سفح جبل بوقرنين. لقد حدّثني بما أخبرتْه به هذه السيدة من حوادث كبيرة شاركت فيها إبان الحركة الوطنية التونسية، وما كان لها من صولات وجولات، وما تكبّدته من أهوال في سبيل تحرير بني قومها من ذلّ الاستعمار وربقة الهوان والانكسار، وكيف قوبل كل ذلك بمحاولة محو ذكرها من حوادث الزمان، وإتلاف أيّ أثر يشير إليها من قريب أو من بعيد، وإلزامها بالصمت المطبق، ورميها في مكان مهجور لمدة أربعين سنة، ظلت الرطوبة خلالها تنخر جسمها إلى أن غادرت عالم الضيم والإتلاف إلى عالم العدل والإنصاف.

حدثني المخرج التونسي منصف بربوش بأنه وعد بشيرة بن مراد وعد شرف أن يعمل عملا سينمائيا يخلّد ذكراها العظيمة وينصفها، وسجّل لها مقاطع صوتية تروي فيها قصتها، لكن – للأسف- قامت أجهزة الأمن بالسطو على تلكم التسجيلات فأتلفتها، ولم يعثر لها على أثر إلى يوم الناس هذا، وهو ما حرم الشعب التونسي من شهادة تاريخية نادرة.

ولأن وعد الحرّ دين، فقد أنجز المخرج ما وعد به هذه السيدة العظيمة، ولم يكن ذلك ممكنا إلا بفضل ما وفّرته الثورة التونسية من مساحات حرّية، ذلك أن الحريّة للمبدعين، هي بمثابة الماء لجميع الأحياء. فطفق المخرج يجمع ما أمكنه جمعه من أسرتها ومن محافيظ المكتبات، وكان لافتا أن المحافيظ التونسية لا يكاد يوجد في طيات وثائقها شيء عن هذه السيدة المناضلة، كأنما عملت يد في الخفاء تريد محو ذكرها وذكراها. وهي ليست سيدة نكرة مطلقا، فهي كانت رئيسة النساء التونسيات، وقد كان الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة يرغب – وفق شهادات من أسرتها – في أن يتزوجها قبل الزواج بوسيلة بن عمار، لأن السيدة بشيرة سليلة أسرة عريقة لها في العلم رسوخ، أسرة بن مراد، ووالدها كان عالما من المشهود لهم بذلك. ولا يخفى عن أحد البعد السياسي لطلب الزواج من أسرة تونسية أرستقراطية، فبورقيبة كان يريد أن يُثبّت أركان حكمه عبر التقرّب من العائلات التونسية العريقة من نخبة الطبقة الحاكمة التي انقلب عليها. لكن بشيرة بن مراد رفضت الزواج من بورقيبة وفق الشهادات. ولم يتيسر جمع الوثائق لإعادة رسم ملامح قصتها إلا من محافيظ دول أجنبية مثل فرنسا وبلجيكا وغيرها.

لقد كان لي شرف مشاهدة الفيلم الذي أخرجه منصف بربوش قبل بثّه لعموم الناس. وأستطيع القول أن الأثر الذي تركه هذا العمل الثقافي في نفسي هو الشعور بالظلم والقهر الذي تعرّضت له هذه السيدة، وتذكرتُ في نهاية الفيلم أمرين اثنين:

أما الأول: فهي الآية القرآنية “وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ…” (التكوير – الآية8). لقد أحسستُ بأن بشيرة بن مراد دُفنت حية. فقط لأنها حاولت أن تقول: لا، للاستبداد.
أما الثاني: فهي قولة هشام جعيّط رحمة الله عليه، وهو عالم الاجتماع التونسي، حين كتب : “أشعر أنني مُهان في انتمائي إلى دولة بلا أفق ولا طموح، دولة متسلطة (إن لم أقُل استبدادية)، لا يوجد فيها علم ولا عقل ولا جمال ولا حياة ولا ثقافة حقيقية، هذه الدولة تقمعني؛ وأنا أختنق في هذا المجتمع الإقليمي، المزيف والجاهل”(هشام جعيّط – أزمة الثقافة الإسلامية).

وإنني أترك لمن لم يشاهد العمل السينمائي بعد أن يبدي رأيه في مشاهد الفيلم، وأكتفي بالقول أن البطلة بشيرة بن مراد بدت في هذا العمل المبدع كأنها طائر الفينيق الذي انبعث من حطامه السابق، أو كأنها جمر التهب مجددا بعد أن كان تحت الرماد، على معنى ما قصد الشاعر التونسي العظيم أبو القاسم الشابي بقوله: “حذار فتحت الرماد اللهيب، ومن يزرع الشوك يجني الجراح”. وهذا العمل هو أقل ما ينبغي أن يقوم به جيلنا لإنصاف أمثال بشيرة بن مراد.

ومازالت المسيرة طويلة جدا قبل أن يأخذ جميع من أذاقتهم أنظمة المقت والبغضاء والكراهية ألوان المذلّة. مازالت المسيرة طويلة جدا، خصوصا حين نشاهد كيف أن العرض الأول لهذا العمل السينمائي تمّ في مدينة الثقافة بتونس، مع تأخير بما يزيد عن أربعين دقيقة، قيل لأسباب تقنية، لكن الفيلم عُرِضَ بشكل مُخْتل تقنيا، ولقد كانت الصورة أكبر من الشاشة، بما أفسد العرض على المتعطّشين للشعور بِردّ الجميل لرئيسة النساء التونسيات. كما أن التسجيل الذي نشرته التلفزة التونسية يحتوي على تقطيع غريب في المشاهد، ناهيك عن “أصوات النشاز” المتحاملة والمتحيّزة، والتي يشير المخرج لها ناحية القمر، وهي تصرّ أن تنظر فقط لأصبعه. ومن المستبعد أن تكون كل هذه الأشياء – مجتمعة – من تدبير الصدف.

مازال في البلاد التونسية خير. مازال عمل الصادقين يتسابق مع أمل المخلصين لأجل أن تتظافر الجهود كي ينال كل ذي حق حقه في الأوطان التي لازال يستبد بها العبث، ويدمّر فيها الجهل كل شيء له معنى.

بشير العبيدي

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock