مقالات

التونسية… رئيسة النساء

سامي براهم 

عودة على فيلم “التّونسيّة” للمخرج المكافح منصف بربوش عن للّه بشيرة بن مراد الذي قدّم من خلال شهادات نادرة سرديّة أخرى لا فقط عن إحدى أعلام تونس المنسيّات من زمن مقاومة الاستعمار بل كذلك عن مرحلة من تاريخ تونس كتب سرديّتها الشقّ المنتصر في الحركة الوطنيّة…

بشيرة بن مراد
بشيرة بن مراد

بشيرة بن مراد هي الردّ الواقعي للشيخ بن مراد شيخ الإسلام الحنفي على امرأة الحدّاد المصلح خريج الزيتونة… وهي ليست مختلفة في الروح عن امرأة الحدّاد التي أقام عليها والدها الحداد في كتابه الشّهير “الحداد على امرأة الحدّاد” وقد أبرزت إحدى الشّهادات أنّ موقف الشيخ بن مراد الحادّ من امرأة الحدّاد كان بسبب تزامن نشر الكتاب “امرأتنا في الشّريعة والمجتمع” مع المؤتمر الأفخريستي الذي اكتسى طابعا صليبيّا وخاصّة مع ما يقال عن نشره من طرف مطبعة تابعة للكنيسة… علما وأنّ بورقيبة نفسه لم يناصر الحدّاد وعارض دعوات تحرير المرأة وناصر الحجاب في أوّل مقال كتبه في جريدة العمل واعتبره رمزا للهويّة الوطنيّة…

امرأة بن مراد هي المثال الواقعيّ لامرأة الحدّاد من حيث دورها الفاعل في الشّأن العام ودعوتها لتعليم النّساء بل تنفيذ هذه الدّعوة على أرض الواقع من خلال تأسيس اتّحاد نسائيّ له فروع على امتداد البلد لتأطير النّساء وتثقيفهنّ وتوعيتهنّ بحقوقهنّ وتأطير دورهنّ في إسناد الكفاح الوطني للشّعب التّونسي ضدّ المستعمر…

من المفارقات التي أبرزها الشّريط أنّ بداية خلاف الزّعيم بورقيبة محرّر المرأة مع للّة بشيرة كان بسبب انحيازها لخيار الاستقلال التامّ ودعوتها للمساواة بين النّساء والرّجال في المساهمة في إدارة الشّأن العامّ بينما كان بورقيبة يرى أنّ ذلك لا يزال مبكّرا فأرسل إليها من مارس عليها الهرسلة للإعراض عن هذه الدّعوة، لذلك خلا المجلس القومي التّأسيسي فجر الاستقلال من النّساء بل خلت الحكومات طيلة حكم بورقيبة من النّساء بإستثناء حالتين عرضيّتين…

الخلاف الثّاني كان بسبب تقدّمه لخطبتها على اعتبار أنّها رئيسة النّساء وهو رئيس الرّجال كما روت إحدى الشّهادات… خطبة سياسيّة لتمتين أركان الحكم بمصاهرة تجمع بين زعيمة وزعيم وعائلة عريقة من أهل الحاضرة وعائلة من أهل السّاحل… لكنّها اعتذرت عن الاستجابة لطلبه… فتوسّعت الهوّة بين الرّئيس والرّئيسة وبين الرّئيسة والدّولة التي همّشتها وقهرتها بعد كلّ ما قدّمته من نضالات… وأخضعتها لإقامة جبريّة منعت فيها من التعبير ومن الظّهور في الحياة العامّة…

المشهد الأخير من الفيلم الذي يصوّر للّه بشيرة في البرلمان زمن المجلس التّأسيس بدا لي للوهلة الأولى مسقطا ودعائيّا لكن بشيء من التمعّن في قصد المخرج تبيّن لي أنّ حلم للّة بشيرة الذي بسببه أقصيت من الشّأن العامّ ونكّل بها تحقّق في المجلس الوطني التّأسيسي الذي شهد عضويّة نسبة محترمة من النّساء وأفضى للمصادقة على دستور أقرّ المساواة التي ناضلت من أجلها…

كان أوّل قرار اتّخذه الزّعيم بورقيبة مباشرة بعد إعلان الاستقلال حلّ الاتّحاد الإسلامي النّسائي التّونسي لتبدأ رحلة عذاب هذه المرأة التي ملأت الدّنيا وشغلت النّاس… كان هناك إرادة سياسيّة لمحو ذِكرها وذِكراها وذاكرتها من تاريخ البلد… ووصل الأمر حدّ إخلاء الأرشيف الوطني من أيّ وثيقة تحيل عليها كما ورد في شهادة المخرج…

المخرج منصف بربوش
المخرج منصف بربوش

شريط التّونسيّة للمخرج منصف بربوش بدأ في الأصل من خلال وعد قطعه لها عند لقائه بها في بيتها لإنجاز فيلم عنها، لكن توفّاها الأجل سنة 1993 قبل أن يرى الفيلم النّور… فكان الشريط وفاء بالوعد… وإحياء فنيّا لروحها لترى ثمرة نضالها…

الفيلم مثقل بالوثائق والشّهادات من طرف عائلة للّة بشيرة ومن عايشوها… اشتغل المخرج بكثير من الجدّ والاجتهاد ليخرج ذلك في قالب يراوح بين الشّهادات ومشاهد المحاكاة التّصويريّة وعرض الوثائق… حاول السيناريو أن ينزّل الشخصيّة في سياقها التّاريخي الموضوعيّ ضمن سرديّة ليس فيها تعسّف أو إسقاط فجّ…

شريط التّونسيّة في أبعاده الرمزيّة يصالح بين امرأة بن مراد وامرأة الحدّاد ويظهر أن الخلاف بينهما مصطنع يخدم أجندات وأيديولوجيات لكنّه مخالف لحقيقة الواقع الذي تتطلّع فيها نساء تونس على اختلاف مشاربهنّ لتعزيز حضورهن في الشّأن العامّ شريكات في بناء الوطن…

رحم الله للّه بشيرة بن مراد وجازاها عن تونس خير الجزاء… وجازى من وفي بوعده لها…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock