عبد الإله شفيشو
إن السؤالين العريضين الذين يفرضا نفسيهما بإلحاح وغرابة هما: أولا لماذا لم نفهم نحن تراثنا ونحترمه كما تعامل معه أسلافنا إذ تبنوه ووظفوه وحافظوا عليه كقيمة مضافة سياحيا ومجتمعيا؟، ثانيا كيف نثمن وندبر تراثا إنسانيا وهنالك من يجهل بل يتجاهل محتواه وقيمته الحقيقية؟.

إن أهمية “فاس” العاصمة العلمية تكمن في كونها مدينة مقاومة بامتياز فتراثها الإنساني لأهميته قاومت للحفاظ عليه على مر العصور لكنه للأسف الشديد حاليا يقضي نحبه ببطء في غياب تثمين وحماية حقيقية في ظل عدم مبالاة الفاعلين المحليين في الشأن العمومي والسياحي وكذا في ظل التعامل مع المدينة العتيقة باستراتيجية نفعية في إطار سياسات استثمار متقطعة الأوصال تهدف التعامل مع التراث كعناصر ديكور لا أقل ولا أكثر وليس كنتاج مجتمعي متعدد الرمزية والدلالة ما يتعذر معه أية فعالية فيما يخص تثمين أو تدبير معقلن للمدينة باعتباره جزءا متكاملا وتراثا إنسانيا، وحتى على مستوى فهم دلالات هذا التراث الغني هناك عجز حقيقي ما يفتح المجال على مصرعيه لكل من هب ودب لتأويلات خاطئة باسم الثقافة والسياحة والاستثمار.
إن التفاهة التي نراها تمارس اليوم في حق النسيج العتيق بالأحياء التاريخية للمدينة ظاهرة استفحاله تتواصل بشكل يومي ومقصود عبر فتح أوراش مشبوهة يدفع فيها للواجهة خيرات شباب المدينة للتغطية عن ما يرتكب من جريمة في حق النسيج العتيق، كما تسلم رخص إصلاح لمستثمرين (سياحيين دخلاء) تشوبها علامات استفهام وتعجب ليقوم هؤلاء ومن منطلق الربح السريع بعمليات إدخال تغييرات التي تشوه صورة النسيج العتيق وخروجها عن معايير الهندسة المعمارية للبنايات الثقافية والتراثية وكذا الأزقة والفضاءات بحجة استقطاب السياحة والسياح، كل هذا يعاكس الصورة التي أرادها ملك البلاد لمشروعه الخاص بترميم المآثر التاريخية والدور الآيلة للسقوط وكذا البرنامج التكميلي لتثمين المدن العتيقة بما يتلاءم والنسيج العتيق الذي صنفته منظمة اليونيسكو Unesco تراثا عالميا لا ماديا.
إن الجهل بالمقومات الحضارية هو سبب عدم الاكتراث بالتراث باعتباره قيمة نفسية ورمزية وهوية قبل أن يكون قيمة مادية فعلى سبيل المثال إن التراث العمراني لمدينة “فاس” بمختلف مكوناته المادية والرمزية والتي تدل على عمق الحضارة المتوسطية هو قيمة سياحية مضافة ومستدامة لما تختزله من مآثر تاريخية حيكت عنها ميثولوجيا غنية غذتها أمم عديدة مرت بالمدينة وتركت بصمات وتاريخا مشتركا (عرب، يهود، مسيحيون، أندلسيون) كلها أمم أثرت وتأثرت وجعلت من المدينة معبر حضارات مختلفة، وملاحظة جوهرية تستحق الوقوف عندها كون التنافس الحضاري بين تلك الأمم لم يبنى على الهدم والبناء على الأنقاض بل كان استعمال الطبوغرافيا لتأكيد الحضور العربي الإسلامي وفي تسمية الأحياء والتجاور كان السمة الغالبة، فالأحياء والمباني العتيقة بالمدينة التي تكتسي بالنسبة لساكنتها الأصليين أهمية بالغة باعتبارها تراثا عمرانيا لا يقدر بثمن وشاهدة على حقب تاريخية معينة لديهم أصبحت مع مرور الوقت مهددة بالتشويه والزوال وتشكل مصدر قلق كبير بالنسبة لهم ولتجاوز هذه الوضعية المأساوية يقتضي إجراء تشخيص موضوعي لحالة النزيف المتواصل للنسيج العتيق والعمل على التعامل معه وفق مقاربة تشاركية ورؤية شمولية متعددة الأبعاد والأطراف تروم معالجة هذه التفاهة ضمانا لصيانة التراث والهوية المحلية وتحقيق الاستدامة بمستوياتها الثلاثة الاجتماعية والثقافية والعمرانية.
إن كان لا بد من مصالحة حقيقية مع تراث وتاريخ “فاس” حتى يتسنى للأجيال القادمة على الخصوص حب الإنتماء بشغف لحضارتهم ومعالجة أزمة الهوية التي تطالها تدريجيا مع العولمة والهجرة القروية فيكفى من إغفال البعد الإنساني في التعامل مع التراث وفق استراتيجيات نفعية قطاعية بهدف السياحة لأن ما يرمم أو ينقذ يكون ظرفيا وليس مستداما بهدف استقطاب التمويل أكثر ما يهم التراث في حد ذاته، حان الوقت للتعامل مع “فاس” العلم والمقاومة خاصة المدينة العتيقة انطلاقا من رمزيتها ودلالاتها وليس انطلاقا مما أن تكون عليه إرضاء للآخر فليس هناك حلولا سحرية ولا يمكن على أية حال تدبير التراث بـ GPS ولا بلوحات رقمية مهما كلف الثمن فالوضعية جد مختلفة ومعقدة وتتطلب الفهم والمصالحة والاعتراف قبل الدعم وتحتاج أكثر ما يقتضي الأمر.
عبد الإله شفيشو / فاس
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.