مقالات

فاطمة

منجي الفرحاني 

قصة قصيرة من وحي المونديال، أهديها إليكم جميعا أحبتي…

أنا محمد، راعي غنم عربي من ريف بوزيد تونس، أعشق كرة القدم وشياهي وبنت عمي فاطمة.. قالت نعجة ترعرعت بين مزابل المدينة قبل أن أشتريها حولية ذات سوق وأضيفها إلى قطيعي:
وهل تعشق والديك وأهلك ووطنك أيضا؟
يا ربي هل أذبحها وأفرق لحمها على أهل قريتنا أم أتركها وحيدة ليأكلها الذئب؟
أنا أيتها المغدودة، لا أتكلم عن أشياء متجذرة في فطرتي التي فطرنيها ربي مثل حب أبوي وأهلي وأرضي.. هيا اغربي عن وجهي وابحثي عن رزق يومك..

من قمة الجبل ناداني زميلي صالح:
هيا اصعد يا محمد الكلأ هنا أوفر والأفق البعيد جميل والمغرب تلاعب البرتغال بعد حين، نشاهدها على هاتفك، فهو الاحسن..
قلت وكأنني لم أسمعه:
نعم!
قال:
هل طرشت؟
فضحك الصدى..
قلت:
هل ترى في الأفق فاطمة؟
أجاب دون تردد:
نعم، إنها تقترب..
فضحك الصدي مرة أخرى..
قلت:
هل أصدقه يا صدى؟
ردد الصدى:
ستأتي، إني أسمعها تغني أغاني الرعاة القديمة الجميلة.. انصت، إنها تغني:

وحش السرا سرا و بروده
يا ولفتي وحش السرا و بروده
وحش السرا سرا و بروده
لا من عزم شرف على قمودة
لا من عزم شرف على قمودة
ولا طاح الليل ارحى الرحى و ارتاحي

لم أكن أنوي الصعود، فالأمور هنا في سفح الجبل أيسر بعيدا قمة يصعب عليها التحكم في القطيع، غير أن غياب الاتصال بالشبكة العنكبوتية هنا ساقني إلى القمة سوقا.. وقبل أن أفسر لنعجتي الذكية المفضلة أننا سنصعد، تفقدت القلادة المثبة على رقبتها والتي تحمل ناقوسا تنبه به القطيع عندما تقتضي أوامري.. زميلي صالح ترك المهمة لأحد كلابه، أما فاطمة فتقود قطيعها بنفسها وتترك كلابها تحرسه من الخلف.. هناك أيضا من يكلف الحمير بقيادة قطيعه، كل وطريقته..

الصورة لفتاة من نفس مكان أحدات القصة، التقطتها في 2014
الصورة لفتاة من نفس مكان أحدات القصة، التقطتها في 2014

في منتصف المسافة نحو القمة عاد هاتفي لالتقاط الإشارة ووجدت صديقا من رعاة القرية المجاورة قد أرسل لي فيديو لزميل لنا في صعيد مصر يرقص بجنون مع زوجته وبنيه وقطيعه ودموع الفرح تبلل خواطره اثر فوز الفريق المغربي على بلجيكا.. قيل إنه اشترى تليفزيونا جديدا خصيصا لمتابعة الفرق العربية في كاس العالم.. هو لا يفهم لا في السياسة ولا في أساليب الحكم ولا في المسلسلات والأفلام ولا حتى في العلوم ولكنه يعرف أن له ولأهله ولقطيعه ولصعيد مصر رب يحميهم ويعرف أن الدم الذي يجري في عروقه عربي، ولغته ضاد..

أنا أيضا هجرتهم مليا يا فاطمة، ولم أعد أفهم إلا في ربي ولغتي وقطيعي.. أما كرة القدم الغريبة العجيبة التي أعشقها أيضا، والتي حلت ضيفة في خيامنا وقيمنا وأحلامنا فلم تكن يوما مجرد لعبة..
التقيت فاطمة قبل القمة واختلط القطيع بالقطيع في انسجام جميل.. فحتى كلابي تعرف كلابها ويربطها هي الأخرى رباط الدم..
جلسنا تحت طلحة نتبادل الفيديوهات التي كانت كلها حول كأس العالم..
قالت:
ألازلت تحسن الكتابة؟
قلت:
قليلا يا فاطمة..
قالت:
اكتب لي عن دموع الفرح والحزن وعن كرم العرب وعن بر الأمهات وعن نفاق الغرب والشرق وعن غنماتي وعن.. ثم غلبها الحياء ولم تقل عني!
قالت ياسمين، أختها الأصغر التي تصاحبها دائما إذا ابتعدت بالقطيع عن الديار:
تريدك أنت تكتب عنها يا ابن العم، وأنا أظنك نسيت لغة الضاد ولم تعد تحسن إلا الكلام مع الاغنان والكلاب..
ثم ضحكت بصوت عال أجفل القطيعين والكلاب والصدى..
قلت:
ربما أنت محقة يا ياسمين، فصورة واحدة اليوم أبلغ من ألف كلمة.. كيف أكتب أنا راعي الغنم الذي أنساه القطيع لغته عن دموع الفرح في عيون طفل برازيلي حولها هدف كرواتي في وقت قاتل إلى دموع حزن؟
أمرها غريب هذه الكرة، كأنها الدنيا حين تأتي ثم تدبر، تغدر، تهجر.. كأنها عاشقة جحود..
قالت ياسمين مشاكسة كعادتها:
تقصد مثل أختي فاطمة؟
قلت:
فاطمة أكبر من أن تجحد ولا أبالك تغدر..
لم تعلق فاطمة ولكن ياسمين أعربت عن شماتتها بدموع نيمار لأنه حسب رأيها متكبر مغرور..
قلت:
لا يا ياسمين، أختلف معك هنا.. الشماتة ليست من شيم الكرام، ثم إنه يظل لاعبا كبيرا ودموعه تفشي سر انسانيته وحبه لبلاده..
ثم إنه لا يوجد لراقصي السانمبا مثيلا في فن مغازلة الكرة، أوليس كذلك يا فاطمة؟
قالت فاطمة:
مسكين نيمار، لعل الأرجنتين تنتقم له من كرواتيا..
ثم واصلت وهي تنظر في الأفق البعيد:
لازلنا لم نبلغ القمة بعد ولكن الأفق في اتجاه مغرب الشمس جميل.. انطر إلى قمم الجبال كيف يتحول لونها من أزرق إلى أفتح ثم أفتح ثم أفتح زرقة..
الجزائر هناك ثم بعدها المغرب..

قلت:
أتذكرين ضربة جزاء حكيمي؟
تقدم واثق الخطوة ثم ركز مليا وعند صفارة الحكم تقدم يحمل أحلامنا من المحيط إلى الخليج في قدمه اليمنى ثم ركلها على طريقة البانينكا وأسكنها الشباك..
قالت فاطمة:
كيف أنسى لحظة صارحتني بها بحبك أيها المجنون؟
أما ياسمين فكانت مشاكسة على عادتها:
راعي غنم يفهم في البانينكا وفي الحب.. أريد النزول هنا..
ثم ضحكت حتى أجفلت زميلي صالح على قمة الجبل فنادى أن أسرعوا، لم يبق للمقابلة إلا بعض الدقائق..
قلت لياسمين:
هل تعرفين البانينكا يا كارثة؟
قالت:
لا ولكني استغربت كيف لراع مثل ابن عمي أن يعرف هذه الأسماء الغريبة!
قلت مهددا بالسوط:
كفاك مشاكسة يا طفلة.. ثم نهضت وجريت وراءها حتى أمسكتها ولم أفعل أكثر من أن احتضنتها وأشبعتها قبلا.. كم أحب هذه الطفلة يا الهي! إنها بنت عمي العزيزة المشاكسة.. إنها أخت فاطمة..
ثم واصلنا الرحلة نحو القمة..
فكرت في نفسي في عالمنا الريفي الجبلي المعزول عن كل معالم ما يسمونها حضارة وكيف أصبحنا نجول العالم طولا وعرضا عبر هواتفنا الذكية التي صنعها لنا غرب نحبه مرة ونكرهه مرات.. نحبه لأنه الممسك بزمام العلم والتكنولوجيا ونكرهه لنرجسيته ونفاقه وماضيه المجرم في أوطاننا..

قالت فاطمة وهي تسير إلى جنبي وتضع يدها في يدي كلما شرد انتباه ياسمين:
لماذا يريد هؤلاء فرض قيمهم علينا؟
نحن تعلمنا أن الضيف عندما يأتي بيتا من بيوتنا، يحترم أهلها.. أليس كذلك؟
قلت:
عجبا.. هل تسمعين ما يدور في نفسي يا فاطمة؟
قالت:
بلى!
لم أعلق.. اكتفيت بالضغط على يدها النائمة في يدي كالعصفورة..
في قمة جبل المغيلة، وصلنا مع صفارة مباراة القمة..
جلسنا في نصف دائرة وهاتفي الذكي أمامنا نشاهد..
علق صالح والكاميرا تنقل صور فريقنا العربي المغربي من قريب:
إنها بركات دعاء أمهاتهم.. لن يخيبهم الله..
ثم أردف:
أنا لولا دعاء أمي ورضاءها علي لأكلتني الذئاب أو الإرهاب أو لانفجر في وجهي لغم..
ثم بدأت الملحمة فتخمرتنا بسرعة ولم نعد نعي حتى بوجود قطعاننا، ولولا كلاب الحراسة لأضعناها أو لانفردت بها الذئاب خاصة وأن الشمس بدأت تقترب من مغربها..
لا صوت يعلو فوق صوت المعلق المغربي وأصوات الجمهور..
قال صالح:
صورة أمير قطر يحمل العلم المغربي ويشجع مثلنا بكل ما أوتي من قلب معبرة وجميلة..
فوافقناه جميعا..
ثم تساءلت بيني وبيني عن لحظات فاصلة توحد شعوبنا من المحيط إلى الخليج وكيف أن الحلم واحد وهو أن ننتصر..
قالت فاطمة ويدها لازالت تنام في يدي ودون انقطاع هذه المرة فياسمين قد خمرتها الملحمة هي الأخري ونست دور الرقيب:
توحدنا لحطات كثيرة ولكننا نسيناها.. الآذان يوحدنا.. قرآن الفجر يوحدنا.. رمضان يوحدنا.. فيروز توحدنا.. القهوة العربية توحدنا..
كل قرانا تفعل كل هذه الأشياء كل يوم..
قلت:
نعم.. أنت محقة يا فاطمة.. نحن قرى فرقتها غفلتها حتى ركبها الرجل الأبيض وشتت أحلامها..
ثم في لحظة فارقة رائعة يقفز الناصيري عاليا عبر الافق حتى كدنا نراه كن على جبل المغيلة ويسجل في مرمي البرتغال..
يا الله.. يا الله.. يا الله.. إننا ننتصر.. إننا ننتصر..
صحنا.. تصافحنا.. غنينا.. رقصنا كالمجانين..
سألت فاطنة في تلك اللحظة المجنونة:
هل تتزوجينني”
قالت:
بلى!
وردد الصدى فرحتنا بالنصر أن الله أكبر..
أما ياسمين فقد أحضرت النعجة التي أغضبتني في بداية الحكاية، فراضيتها وقبلت رأسها ووعدها ألا أذبحها أو أبيعها أو أتركها للذئاب مهما فعلت…
انتهت…

✔ المنجي الفرحاني
(الصورة لفتاة من نفس مكان أحدات القصة، التقطتها في 2014)

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock