افتتاح حفل المونديال ما قاعدة تأويله ولماذا يستحق التحليل؟
أبو يعرب المرزوقي
لست من المغرمين بكرة القدم. الكرة التي كنت مغرما بها قبل انقطاع علاقتي بالبادية التي جئت منها هي كرة “العقاف”. وكنت من مجيديها. والرياضات التي كنت احبها في البادية هي:
* الجري و”اللطاخ” وركوب الخيل قبل أن أصبح “متمدنا”.
* وحمل الأثقال في المندرة قبل القطع مع الزراعة. عندما نجمع صابة الحبوب وننقلها إلى “الخص” أو إلى “المطمورة”.
ما الذي يجعلني أكتب إذن عما يجري بمناسبة رياضة لست مغرما بها؟ إنه ما استفزني في التأويلين السائدين للرمز الذي اختير في الافتتاح أعني اللقاء بين شاب تغلب على كل المعوقات البيولوجية وشيخ تألب على كل المعوقات الحضارية.
ولا ادعي منافسة المؤولين ولا حتى الدراية بمقاصد أصحاب الحفل من اختيار هذين الرمزين: شاب تغلب على معوقات عضوية وشيخ تغلب على معوقات حضارية.
ولا أدري إن كان الدافع هو هذا الذي أحدسه في اختيارهما. كما أني لا أنافس أصحاب التأولين اللذين أرفضهما لكني اقدم حسن القصد ولا استبدل الذي هو خير بالذي هو ادنى: سأعتبر الأمر تسابقا في الخيرات وليس تنافسا في التأويلات.
فأول التأويلين اللذين أرفضهما هو اعتبار الرمز الذي اختاره أصحاب الحفل فيه تفريط في كرامة العرب والمسلمين الذين رمز إليهم بصاحب حاجات خاصة قزمته البايولوجيا في علاقة برمز عملقته البايولوجيا لكأن الرمزين يقابلان بين العرب والأمريكان.
والتأول الثاني هو اعتبار الرمز الذي اختاره أصحاب الحفل إفراط في مدح كرم العرب المسلمين وعنايتهم بأصحاب الحاجات الخاصة للرد على متهميهم بإهانة العمال فيكون الدافع كذلك متعلقا برد فعل يخفي سوء فعل كلاهما ناتج عن عقد المغلوب أمام الغالب.
فيكون كلا التأويلين يشارك الثاني في قاعدة التأويل الواحدة: إنها قاعدة تعاني من عيبين ومزايدتين ينتجان حتما إضمار سوء القصد وفي الحالتين والتشكيك في ذكاء أصحاب الحفل واعتبارهم جاهلين بما يرمزون إليه.
لا أزعم العلم بما يرمز إليه أصحاب الحفل. ولا نية لي في نسبة ما فهمته من الرمزين إليهم. لأن مقاصدهم هم اعلم بها وهم لم يذكروها على ما اعلم. ذلك أن أهمية الرمز تقاس بتعدد تأويلاته وبقائها من ألغاز التعبير الثري.
فماذا فهمت من هذا الاختيار؟
سأفرض أن الشاب المسلم يرمز إلى ما يمكن للإنسان أن يفعل ليتحرر من طغيان الطبيعة والبايولوجيا بفضل ثمرة فعل البشرية العلمي والتقني بما جهز الله الإنسان به للاستعمار في الأرض: فيكون رمزا لثورة نوح.
وسأفرض أن الشيخ الأمريكي يرمز إلى ما يمكن للإنسان أن يفعل ليتحرر من طغيان الحضارة والسياسة بفضل ثمرة فعل البشرية العملي والخلقي بما جهز به الله الإنسان للاستخلاف في الأرض: فيكون رمزا لثورة موسى.
الأول أعاقته الطبيعة فتغلب عليها بالعلم وتطبيقاته التقنية عندما يستعملهما مؤمنا بربه من أجل الخير وليس من أجل الشر: رعاية الحاجات الخاصة رمزا لجعل الإنسان غاية وليس أداة.
الثاني إعاقته الحضارة فتغلب عليها بالعمل وتطبيقاته الخلقية عندما يستعمله مؤمنا بربه من اجل الخير وليس لمساندة العبودية التي عانى منها مثل كل سود أمريكا رمزا لجعل الإنسان رئيسا بطبعه بمقتضى الإستخلاف كما عرفه ابن خلدون.
عندئذ ندرك حقيقة قاعدة التأويل التي ينبغي أن نفهم بها ما وقع اختياره رمزا للافتتاح. فالرمز هو إذن رمز الإسلام جامعا بين ثورتين أولاهما هي مضمون رسالة نوح والثانية هو مضمون رسالة موسى وهما أكثر الرموز تكرارا في القرآن الكريم:
فالأول -الشاب- استعمل ما جهزه به الله لتحقيق شروط الاستعمار في الأرض والتحرر من طغيان الطبيعة: إرادة حرة وعقل راجح فلم ينس نعم الله على الإنسان لما استخلفه فيها.
الشاب يرمز إلى ثمرة ثورة نوح: كيف يمكن للإنسان باجتهاد الإنسانية العلمي (صنع السفينة والزراعة) أن يتحرر من طغيان الطبيعة عندما يحترم قانون الطبيعة وسنن التاريخ.
فيكون الرمز هو ثمرة الجهازين لتحقيق شروط الاستخلاف وليس للفساد في الأرض وسفك الدماء. وإذن فالشاب يرمز إلى مضمون رسالة نوح التي تذكر الإنسان بفضل الله عليه بأن أمده بالعلم وتطبيقاته.
أما الشيخ الأمريكي -رمز من تحرر من العبودية- فهو رمز الثورة الثانية ثورة موسى الذي يحرر الإنسان من العبودية ضد فرعون. والعبودية عاهة حضارية سببها طغيان الإنسان على الإنسان.
فيكون الشيخ الأمريكي الإفريقي الذي يرمز لمعاملة الإنسان كعبد مسهما ليس في تحرير نفسه فحسب بل في الانضمام إلى ثورة نوح لبيان أن الحضارة لا ينبغي أن تصبح هي بدورها مستعبدة للإنسان بدلا من تحريره.
فالحضارة يمكن أن تقضي على الزرع والضرع بالإفراط في ما كان أداة تحرير أي العلم وتطبيقاته التقنية فاصبح عمله وتطبيقاته الخلقية أداة استعباد للإنسان وفساد في الارض وسفك للدماء: ثورة على فساد العولمة.
وهذا الوعي بالتوفيق بين الثورتين ثورة نوح المحررة من طغيان الطبيعة بالعلم وتطبيقاته التقنية وثورة موسى المحررة من طغيان الحضارة بالعمل وتطبيقاته الخلقية هما مضمون الثورة المحمدية.
فيكون الرمز ليس الشاب والشيخ بل بيان حقيقة الإسلام من حيث هو رسالة الاستعمار في الأرص والاستخلاف فيها المحقق لتكذيب رمز ابليس الذي ينفي على الإنسان أهلية الاستخلاف في الارض بالتحرر من العبوديتين.
فإذا صح أن الشيخ الامريكي أسلم أو حتى إذا كان لم يسلم فإنه صار رمزا لثورة موسى ضد العبودية التي تسهم في تحرير البشرية. وإذا صح أن الشاب قد تحمل كل ما تحمل أو كانت ظرفية اسرته ودولته قد ساعدته في ذلك فهو قد جمع الثورتين.
ما رأيناه ليس علاقة بين العرب وامريكا بل هو رمز للإنسانية كلها وليس هو دالا بالفارق البدني بين الشاب والشيخ بل هو دال بما يرمز إليه كليهما من وضع روحي:
- الشاب يعبر عن دور الإيمان الروحي المحرر من الخضوع للظرفيات الطبيعية بما جهز به الإنسان من إرادة حرة وعقل راجح مهما كان وضعه البدني.
- والشيخ يعبر عن دور الإيمان الروحي المحرر من الخضوع للظرفيات الحضارية بما جهز به من إرادة حرة وعقل راجح مهما كان وطعه الاجتماعي.
فيكون ما جمع ببنهما هو الوعي بدلالة الآية الأولى من النساء حول الأخوة البشرية (من نفس واحدة ولهم رب واحد) وما يترتب على هذا الوعي بدلالة الآية الثالثة عشرة من الحجرات (التعارف معرفة ومعروفا والمساواة إذ لا تفاضل عند الله إلا بالتقوى).
هل كان أصحاب الحفل قد قصدوا ذلك؟ لا أدري. لكن حتى لو لم يكن ذلك قصدهم فإني لا أرى قاعدة سوية لتأويل ما فعلوه من جعل الحفل كله مداره التعريف بالإسلام وحماية قيمه.
وعلى كل فإن الإقدام على ذلك رغم كلفته ورغم كل مؤامرات الأعداء حتى وإن لم يكن بالمعنى الذي فهمته فإنه بثمرته يقرب منه. وقد حاولت ترجمته بالاعتماد على القرآن الذي هو دستور البشرية الخاتم.
وطبعا فالتأويلان الأولان اللذان رفضتهما هما ما يمكن أن يفهم بما ينسبانه إلى أصحاب الحفل: فمن لم يتعالى على ظاهر الأشياء فيكتفي بالمقارنة بين حجم الأبدان لا يمكن أن يفهم ما قاله ابن خلدون عن “معاني الإنسان”.
فيكون في الحقيقة ما يرد إلى الأحجام البدنية غارقا في المادية إلى الأذقان ولا يمكن أن يغوص إلى معاني الإنسان الذي لا يقاس بالأحجام العضوية ولا بالعقد النفسية.
بل حقيقته ومعياره الوحيد هو الإيمان بتعريفه الخلدوني المستمد من القرآن الكريم “الإٌنسان رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” وذلك هو جوهر الإسلام.