مقالات

القضاء بنيته واحدة في الدنيا وفي الآخرة

أبو يعرب المرزوقي 

لن أتكلم في محاكمتي التي ستبدأ تباعا من يوم الاثنين المقبل الحادي والعشرين من الشهر الجاري إلى الأسبوع الأول من الشهر القادم.
إنها محاكمة على ما لا يعد جرما إلا عند سلط فاقدة للشرعية.
ولما كنت مؤمنا بالحكمة الشعبية القائلة:
“إذا كان النواح بالجبهية لا يرحم الميت والأخوية
فإني أشكر السيدات والسادة المحامين الذين تطوعوا للدفاع عني أو من سيتطوع.
لن اطلب المشاركة من أحد لم يتطوع للدفاع عني بمقتضى مبدأ الدفاع عن حرية الرأي.
فلست منتميا إلى حزب معين ولا أفاضل بين المتطوعين بمعيار آخر غير إيمانهم بضرورة الدفاع عن حرية الرأي والمعتقد.
فالقضية لا علاقة لها بالحزبيات والعصبيات -لذلك لا انتظر حضورا كثيفا- بل هي متعلقة بمسألة مبدئية هي قضية حرية التحليل الجيوستراتيجي في الفلسفة السياسية لفهم ما يجري في الإقليم وقاية وعلاجا كالحال في كل تحليل يشمل لحظة من لحظات تاريخ أمة.

إذ إن البحث يشمل الإقليم من العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا وتونس:
مجال الانقلابات وخاصة بعد ثورة الربيع.
موضوع هذه التدوينة يتعلق بشروط البنية الثابتة في كل قضاء دنيوي أو أخروي وخاصة في قضية تنحصر في تعيير موقفي العام إذا عومل على أنه يقتصر على ما يتوهم وكأنه قضية بين المنقلب وبيني.
فهو المدعي وإن كنت لا أملك الدليل على أنه قد نوّب الواشيتين وأنا المدعى عليه منهما دون تأكدي من أنهما سيحصران بهذه الصفة في المحاكمة.
فالحجة الوحيدة إذا غاب التوكيل الرسمي من المدعي الذي يزعمان نيابته عن ضرر حصل له من بحوثي التي كان فيها أحد أمثلة الظاهرة الانقلابية في الإقليم هو الحسبة التي لا اعتقد أن القانون التونسي يقرها.
لذلك أريد الكلام في المبدأ الذي يحكم القضاء عامة دنيويا كان أو أخرويا ولن أتطرق لمضمون القضايا الخمس التي سأحاكم عليها بعد تخلي المحكمة العسكرية عن الدعوى منذ أكثر من سنة.
ولست ادري هل نقلها إلى القضاء العدلي جاء بعد استئناف للتخلي أم هو مبادرة جديدة من النيابة العمومية.

ولن أطيل:
سأكتفي بتحديد ما يقتضيه العقل والنقل من شروط خمسة هي سر أهمية القضاء في الدول وطنيا وبينها دوليا.
فالقضاء لا يكون سليما ما لم تتوفر فيه خمسة أركان في الدنيا وفي الأخرة في نفس الجماعة وبين الجماعات البشرية وهي التالية:

  • أولا الدعوى التي يتعلق بها النزاع
  • ثانيا النص القانوني المناسب للدعوى
  • ثالثا الهيئة القضائية التي ستطبقه: وأخلاقها هي المركز في القضاء
  • رابعا المدعى عليه ومن ينوبه من المحامين
  • خامسا المدعي ومن ينوبه من المحامين.

ما أظنني بحاجة إلى إثبات ذلك بالنسبة إلى القضاء الدنيوي بأصنافه الخمسة أي القضاءان الأعليان وما يترتب عليهما في جعل العيش المشترك السلمي في الجماعة الواحدة وبين الجماعات في العالم يكون سلميا:

  • الدستوري المتعلق بأساس كل قانون
  • ثم الإداري المتعلق بحقوق المواطن إزاء الدولة الممثلة للدستور والقانون
  • ثم القضاء الجنائي الممثل للصالح العام وحقوق المواطن المتعلقة بكيانه المادي والروحي. ولذلك فهو المركز في كل قضاء ارضي أو سماوي.
  • ثم القضاء المدني في الالتزامات والعقود.
  • ثم قضاء التحكيم بالتراضي بين الخصمين مثل قانون الأسرة وقانون العمل وربما الأعمال.

🔹ملاحظة أولى:

الجنائي يعد قلب القضاء لأنه يجمع بين الخاص والعام وغالبا ما يكون متصلا بالخروج عن القانون خروجا نافيا للإنسانية من حيث الحرية والكرامة وذروته قتل النفس بغير الحق.

🔹ملاحظة ثانية:

كل ما يتعلق بالمحاسبات الخاصة بالتصرف في أموال الجماعة من قبل القيمين على المؤسسات العامة ليس نوعا سادسا بل هو فرع من القانون الإداري الذي يكون المدعي والمدعى عليه المفترض فيه هو الدولة بما يشبه المراقبة الذاتية للقيمين عليها في احترام مال الجماعة.

فهل القضاء الأخير في الآخرة بالنسبة إلى المؤمنين له نفس البنية المخمسة التي ذكرت؟
قد يشكك الكثير في الحاجة إلى المحامين في اليوم الآخر لأن القاضي ذو علم محيط.
فيظن ذلك كافيا ليكون مكتفيا بالمدعى عليه ليحاكم ومستغنيا عن إحضار المدعي والمحامين.
ويظن نوعا واحدا ليس فيه هذه الأبواب الخمسة التي ذكرتها.
لكن من يقرأ القرآن يجدها كلها في كلامه على الحساب يوم الدين. كل ما في الأمر هو أن المعروض على الحساب بوصفه مدعى عليه يتوهم انه بوسعه التحيل على القانون ليخفي حقيقة ما يتهم به لغياب المدعي والمحامين والشهود.
لكن المدعي ومحاموه موجودون في الكتابين العارضين لأفعال المدعى وفي جوارحه التي تشهد عليه لما يتحيل لنفي الوقائع. وتحيله لا يستطيع أن يجد محاميا يمكن أن يدعي بيان حقيقة خفية وراء الوقائع لأن القاضي -الله- ذو علم محيط.
وبذلك فالشروط الخمسة متحققة في القضاء الإلهي أيضا. ولا يكون القضاء الأرضي قضاء بحق ما لم يتحقق فيه القدر الممكن من هذه الشروط. فتكون شروط القضاء السماوي هي التي تحدد المثال العليا للقضاء الأرضي.

فماذا يجعل هذه المثل العليا تفعل فيه فترفعه إلى القدر الممكن للاجتهاد فيه؟
إنه ما يقال عادة: “حكمه بمقتضى روحه وضميره”:

  • فروحه ترمز إلى حضور الأمانة للقانون والعدل بين المتنازعين
  • وضميره يذكره بأن الحياة الدنيا فانية وأن الحياة الأخرة هي الباقية.

ويعسر أن يغفل القاضي عن ذلك وخاصة في ظرفيات الشعوب التي يعاني فيها القضاء من عدم الاستقلال والمناعة من الضغوط عليه في أحكامه.
فحتى لو فرضناه متواطئا فهو لا يمكن ألا يشعر بأنه مهان عندما يمنع من الحكم بمقتضى روحه وضميره: لا يوجد إنسان فاقد لهذه الخصيصة النفسية.
ولهذه العلة فالقضاء يعتبر اشرف فعل إنساني لأن صاحبه مهما انحط فهو لا يستطيع قتل روحه وضميره.
فهو العمل الوحيد الذي لا يمكن أن يغيب فيه حضور الله أمام الروح والضمير.

فالقاضي يحاكم نفسه في كل حكم على غيره أو له:
معيار العدل المطلق هو تطبيق قانون معاملة الغير بما يرضى به معاملة من الغير له.
وذلك هو الميزان الخلقي الكوني.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock