دور الدين في الدولة ليس ثيوقراطيا ولا انثروبوقرطيا
أبو يعرب المرزوقي
ما لم أستطع له تفهما هو أن يقول قاض يتفلسف في الفلسفة السياسية أن الإسلام لم يكن دينا ودولة فيقول بالفصل بينهما (عبد الرازق) بسبب توهمه علاقة الدين بالدولة مقصورة على الدولة الدينية بالمعنى الثيوقراطي المسيحي والشيعي.
وما لم أستطع له تفهما هو أن يقول مؤرخ للفقه يتفلسف في الفلسفة السياسية أن يضيف إلى هذا الزعم نقيضه بسبب ادعائه أن الإسلام كان دينا ودولة في الماضي وأن ذلك بات مستحيلا لأن الدولة الحديثة لا أخلاق لها.
فهذا الكلام يعني أن الأخلاق تقتضي الثيوقراطيا التي:
• ينفيها الأول عن الماضي لظنه أن الجمع بين الدين والدولة لا يكون إلا ثيوقراطيا.
• ويثبتها الثاني لاعتباره فقدان الثيوقراطية في الدولة الحديثة يعني فقدان الأخلاق فيجعل الدولة الإسلامية مستحيلة في المستقبل.
لكن الإسلام كان دينا ودولة في ماضيه ويظل دينا دولة في مستقبله دون أن يكون ثيوقراطيا ودون أن تكون الدولة الحديثة بتخلصها من الثيوقراطيا قد فقدت البعد الخلقي.
مشكل القاضي هو علاقة السياسي بالديني إذ جعلها ثيوقراطيا أو لا تكون.
ومشكل المؤرخ هو علاقة الخلقي بالديني إذ جعله ثيوقراطيا أو لا يكون.
وكلا الجعلين دالين على سوء فهم علاقة الديني بالسياسي وعلاقة الخلقي بالسياسي.
وتلك علة سوء تأويلهما لعلاقة الإسلام بهما معا تأسيسا وتقويما.
وكان يمكن ألا يقع أي منهما في سوء الفهم الذي وقع فيه لو انتبه إلى أن السياسة سواء في تصورها الديني أو الفلسفي هي بالأساس المشترك بينهما أي:
وصل بين مثال أعلى مستمد من قيم تسلم وتعتبر سرمدية ومسعى لتحقيقها هو عين تاريخ الفاعلية السياسية.
وهذا المسعى لتحقيق هذا الوصل هو القصد بالأخلاق في الفلسفة وفي الدين كذلك.
وبهذا المعنى:
• فالثيوقراطيا (الحكم باسم الرب) التي تتوهم معنى للإسلام دين ودولة في الماضي وتنفى.
• والانثروبوقراطيا (الحكم باسم الإنسان) التي تتوهم معنى لاستحالة الدولة الإسلامية في المستقبل.
لكن لا وجود الأخلاق مرتهن بالثيوقراطيا فيحصر دور الديني فيها لأن ذلك شرط الأخلاق.
ولا الانثروبوقراطيا (وهي الدولة الحديثة أو العلمانية) خالية من الأخلاق بتنافيها مع الثيوقراطيا.
فحصر دور الديني في السياسي في الثيوقراطيا.
وحصر الخلقي في السياسي في اللاديني.
كلاهما تحريف لهذا الوصل بين التاريخي والسرمدي الذي يشترك فيه الديني والفلسفي:
فكلاهما يطلب المسار من التاريخي إلى السرمدي ويعلم أنه مسار لا متناه لتلازم الشاهد مع الغيب في الوجود.
ذلك انه لا يمكن تصور السياسي من دون المشترك بين الديني والفلسفي على الأقل في الإسلام بفهمه السني الذي يرفض الدولة الثيوقراطية.
فما ينسبه الديني إلى السياسي ليس الحكم باسم الرب بل هو ينسب القيم التي يخضع لها الحكم إلى الربوبي الذي يتعالى على التاريخ.
فيكون دور الديني في السياسي هو الدور في قيم التشريع حتى يتحرر من التحكم الإنساني:
الديني هو شرط شرعية التشريعي في أي جماعة سوية.
وما ينسبه الفلسفي إلى السياسي ليس الحكم باسم الإنسان بل هو ينسب القيم التي يخضع لها الحكم إلى الطبيعي الذي يتعالى على التاريخي. فيكون دور الفلسفي هو الدور في قيم التشريع حتى يتحرر من التحكم الإنساني:
وما ينسبه الديني إلى الربوبي ينسبه الفلسفي إلى الطبيعي.
والإسلام يسمى ذلك فطرة الإنسان التي تحدد واجباته إزاء غيره التي تعير بما ينتظره من غيره إزاءه فيكون تحديد الواجبات منطلقا بالوعي الضمني بالحقوق.
والفلسفة تسمي ذلك طبيعة الإنسان التي تحدد حقوقه التي يطلبها من غيره ويطلب من نفسها مثلها لغيره. فيكون تحديد الحقوق منطلقا لتحديد الواجبات بالوعي الضمني بها.
والحصيلة واحدة رغم التقابل في التأسيس.
والتأسيس الديني هو الأقرب للعقل السليم لان ما ينساه الإنسان عادة هو الواجبات لتركيزه على الحقوق.
والفلسفة بذلك تتخلف عن الدين لأن الانطلاق من الحقوق لن يصبح عادلا ومتضمنا الوعي بالواجبات إلا إذا آمن الإنسان بالمبدأين القرآنيين.
- المبدأ الأول
هو مضمون الآية الأولى من سورة النساء أي الأخوة البشرية ووحدانية الرب النافي لكل مربوب سواه فلا يصبح البعض ربا والبعض عبيدا له. - المبدأ الثاني
هو مضمون الآية الثالثة عشر من سورة الحجرات وهو ضرورة التعدد العرقي والطبقي حتى يحصل التعارف معرفة معروفا بين المتساوين أمام الله ولا تفاضل إلا بالتقوى أي باحترام القانون.
ذلك ما لم يفهم القاضي المختص في الفقه والمؤرخ للفقه بسبب الاقتصار على القشور الإيديولوجية وعدم الذهاب إلى الغاية في تحليل ما يؤدي إليه التحريفان أي الثيوقراطيا والانثربوقراطيا عندما يصبحان مجرد غطاء على الأبيسيوقراطيا أي دين العجل.
الثيوقراطيا التي ينفيها الإسلام بمقتضى الآية الثامنة والثلاثين من الشورى التي تلغي الوساطة الروحية تحرر من الغطاء الأول للأبيسيوقراطيا
الانثروبوقراطيا التي ينفيها الإسلام بمقتضى نفس الآية تلغي الوصاية السياسية بمقتضى بداية الآية (الاستجابة للرب ورمزها الصلاة) وغايتها (الإنفاق من الرزق ورمزها الزكاة).
ومن ثم حصر طبيعة الحكم في الإسلام.
ولهذه العلة فإن أول فعلين سياسيين لما انتقل الرسول من المرحلة التربوية إلى الحكم في الهجرة من مكة إلى المدينة كانا:
- أول فعل سياسي هو البيعة التي تعني أن شرعيته كحاكم مستمدة من الجماعة وليس من كونه رسولا لأن الرسالة اصطفاء الله بمستغن عن البيعة.
- وثاني فعل سياسي هو كتابة دستور المدينة ما يعني أن بيان الواجبات والحقوق ببعديهما هي مضمون العقد السياسي والاجتماعي بين المؤمنين وبينهم وبين القيم الذي ينوب الجماعة التي اختارته بالبيعة.
فيكون النظام كما حددته الآية الثامنة والثلاثون من الشورى :
• النظام الجمهوري (أمر الجماعة = راس بوبليكا).
• أسلوب الحكم (شورى بين الجماعة = ديموقراطية).
وبذلك يزيل الإسلام الغطاءين على دين العجل وحكمه بالعملة التي لا تبقى أداة تبادل بل تصبح سلطة على المتبادلين وبالكلمة التي لا تبقى أداة تواصل بل تصبح سلطة على المتواصلين.
فيكون الحكم للمسيطرين على الرزق المادي يستعبدون به بقية البشر وذلك بتوسط ربا الأموال (الرمز هو معدن العجل) بتحالف مع المسيطرين على الرزق الروحي بتوسط ربا الأقوال (الرمز خوار العجل).
لذلك فالقاضي والمؤرخ يخلطون بين دور الدين والثيوقراطيا ودور الأخلاق هذا الدور لأنهما لم يفهما:
• أن الثيوقراطيا ليست ما يطلبه الدين في السياسة بل هو يلغيها.
• وأن الأنثروبوقراطيا ليست معارضة للأخلاق لاستحالة ذلك بالطبع.
إلا إذا لم تصبح نفيا لما يتعالى على نزوات الأفراد الذين صاروا عبيدا للمستولين الرزقين.
وكلاهما من ثم تحريف يغطي عن دين العجل والحكم بمعدنه وخواره.
والإسلام الذي يفضح هذا التحريف يجرنا من هذه التغطية عن نوعي الربا المالي والكلامي هو الذي يضع النظام الجمهورية الديموقراطية التي:
يكون أساسها الاستجابة للرب في أسس التشريع وغايتها الصدق في التواصل والعدل في التبادل أسسا للعيش المشترك وذلك هو دور الدين في السياسة في الرؤية الإسلامية:
مبادئ التشريع في صدق التواصل وعدل التبادل حتى لا يكون أحد ربا لغيره إذ الرب واحد وهو فوق الجميع.